نظرية المؤامرة والسيادة

آراء 2019/10/26
...

رزاق عداي 
 
يبدو أنّ - نظرية المؤامرة - باتت متهافتة في مجال الجدل السياسي، اقترن هذا مع زمن غروب السيادة وفي عصر ثورة المعلومات، التي باتت تتوسّع حثيثا في العقود الاخيرة مخلّفة انزياحات كبرى في مجمل الحياة الانسانية.
واطلاق تسمية ثورة المعلومات لا يحتاج الى دليل كي نلمسه في مفاصل الحياة حولنا، فالعالم اليوم مربوط معا بشبكة الكترونية تنقل الاخبار والبيانات، الجيدة والسيئة، الحقيقية منها والزائفة بسرعة الضوء الى اي مكان في هذا الكوكب، وتحول الكميات الهائلة للمعلومات التي تنتقل عن طريق الشبكة، فضلا عن سرعة البث لها.
ولقد كان  تأثير هذا  المنجز التقني الكبير باهرا، يراه البعض انه يفوق معطى الثورة الصناعية قبل اكثر من قرنين من هذا اليوم، فقد اصبح رأس المال العقلي يتقدم على رأس المال المادي الذي كان يمثل الجزء  الاساسي من نظرية - كارل ماركس - الاقتصادية انذاك، اما اليوم فإنّ انزياحا حصل شمل بنية الكثير من المعادلات، فمصدر الثروة الجديد لم يعد مقتصرا على العامل المادي فقط، بل هو معلومات ومعرفة تطبق على العمل لخلق قيمة.
لقد احدثت ثورة المعلومات متغيرات جذرية في انماط الحياة، فالثورات لا تحدث الا بعد ان يعلم الناس ان هناك بديلا لحياتهم، ففي اجزاء عديدة من العالم، كانت الاخبار المناقضة للخط الرسمي للدول تراقب مراقبة شديدة، اما اليوم فإنّ اصغر الاحداث يسمع صداه في نصف الكرة الارضية الاخر، وسوف يكون في متناول الاطلاع على الفور عن طريق الفضاء والتلفزة و وكالات الانباء، فتقنية المعلومات تنقل اخبار الحرية التي تخلق وضعا يوصف بانه اختراق للسيادة، مما يؤدي الى تخفيف سريع لسلطة الدولة المطلقة في العمل بمفردها داخليا ضد مواطنيها وخارجيا ضد شؤون أمم أخرى. الحرية تنتقل وتنتشر مثل الفيروسات عبر الشبكة الالكترونية، فالشعوب المحرومة والمكبلة لا يمكن اليوم تطويقها وعزلها عما يدور في العالم،  وفي ظل قاطرة تقنية المعلومات، والذي بات لايمكن عكس اتجاهه فلن تبقى الشعوب سادرة في غياهب العبودية الى الابد. لا يمكن اليوم تشكيل العالم حسب ذكريات العالم القديم، فنظرية المؤامرة التي وظفت بالامس كي تكون يافطة يعتمد عليها في تخوين اي نشاط من شأنه التأثر بما يحدث في بقية العالم فحتى العدو ما عاد يحتاج الى تجنيد ادوات للتأثير على الداخل اذا ما استخدم ادوات ثورة المعلومات، فالرسائل والاجندات يمكن لها ان تخترق اي فضاء تسعى الى اختراقه،
هذا يعني ان نظرية المؤامرة في طريقها الى الضمور، ان نشر المعلومات، المحجوبة سابقا عن اعداد الناس الذين لم تتوفر لهم، غالبا ما يخلخل بنى السلطة القائمة، وكما جرد نشر المعرفة الطبية البدائية الطبيب القبلي الساحر من سلطته، فان انتشار المعلومات عن اشكال الحياة البديلة في اقطار اخرى يهدد صحة بعض العقائد السياسية الرسمية، ومصداقية الزعامة واستقرار نظام الحكم. لقد اصبحت تطبيقات الانترنت الموصلة باقمار صناعية في الفضاء هي من تقض مضجع الساسة والرسميين غير المتأكدين من سلامة افكارهم وتطبيقاتهم في الحكم ، والحقيقة ان رؤيا - جورج اورويل- في روايته -1984- قد انقلبت على عكسها تماما، فبدلا ان يسمع الحاكم كل كلمة يقولها المواطن في عزلة بيته، اصبح المواطن هو الذي يسمع عما يعمله الحاكم، واصبحت لديه طرق الكترونية لا تعد ولا تحصى لتسجيل موافقته او مخالفته، وفجأة، امتلك كل شخص امكانية الوصول الى كل شيء، الا في المناطق الاكثر بدائية او في تلك الاقطار التي يتمادى زعماؤها في قمع الناس الى حد عزل شعوبهم عن العصر للمحافظة على حكمهم.
لقد جرى اختراق للجغرافيا، ومعها تفكك مفهوم السيادة.
يبقى على الحكومات مهما تعددت الوانها ان تحصّن شعوبها عن طريق الحكم السديد، فثورة المعلومات لا يمكن لها ان تتوقف عند حدود، مهما كانت القيود والاطواق، فمصير نظرية المؤامرة سيشبه حتما مصير السحر القديم.