جاسم عاصي
علاقة السيرة الذاتية بالتاريخ مباشرة وبصميميها . ذلك لأنها تتعلق بالسجل الشخصي للفرد أولاً ، وعلاقة هذا الفرد مع المجموع ثانياً ، كذلك ما تشكله الجماعة من تاريخ ثالثاً . هذه الأسباب تُشير إلى مدى العلاقة بين السيرة والتاريخ . فكل المدونين اعتمدوا على سيرة الملوك والقادة ، ورؤساء الدول من أجل ربطها بحركة الواقع . وطبيعي هذا يُسفر عن جدلية العلاقة بين هذه الأطراف ، من حيث أنهم صنّاع التاريخ . وكم عرفنا استنتاجاً للأحداث الكبرى من خلال أحداث بسيطة ، تتعلق بالأشخاص ، كونهم يؤدون أفعالاً في الوجود . ومدونة الدكتور (عبد الحميد الفرج) من هذا النوع ، لأنها ليست سيرة شخصية فحسب ، وإنما هي مدونة لكل من عاش معهم ، وتعلم
منهم.
فصاحب السيرة بدأ حياته في الأربعينيات من القرن الماضي مناضلاً أبياً صامداً ، وكانت الظروف قد خدمته ، فهو من أوائل من اعتقلوا في سجن( نقرة السلمان) ، فقد دخله شاباً ، وشاباً عاصر واحتك مع كبار المناضلين ، اكتسب من سيرتهم اليومية دروساً أفادته كثيراً في مسيرته الوظيفية والنضالية . دخل السجن من دون انتماء واضح ، وخرج منه شيوعياً واعياً وصلباً، توالت السجون على فتح أبوابها لهذا النزيل الشاب ، أمثال سجن بعقوبة وغيره . مما صلب عوده ، وزاد وعيه للحياة ، وعرف مبكراً أعداء الشعب الطبقيين ، الذي يبدلون زيهم لكل زمان ومكان . فعرف أنهم انتهازيون على مر التاريخ ، يتلونون كالحرباء .
إن من ميّزات السيرة هنا ، أنها انطلقت من تسجيل سيرة المكان ، سواء مدينة (سوق الشيوخ) أو سواها من المدن التي انتقل إليها بحكم وظيفته كطبيب .ان توصيفه لمدينته كان دقيقاً ويتميّز في كونه توصيفاً طوبغرافياً وانثروبولوجياً . فقد درج على وصف الأمكنة ، وتأثيرها في الإنسان ، من مضايف ومجالس أدب ومقاه . كذلك الأسواق والتجارة فيها ، مستعرضاً بالكتابة والصورة إلى أهم من عاصرهم أو سمع عنهم .
إن مدينة سوق الشيخ ، مدينة عريقة من بين تاريخ المدن العراقية ، فقد استطاع الباحث (الفرج) أن يتقصى كل ما سمع عنه ، ليستكمل توصيفاته للمدينة . فظهرت مدونته مكتملة الجوانب. لاسيّما جانب انتقالاته بين السجون، والمواقف التي شهدت تاريخاً أسود ، سجله التاريخ ، ليس بالحبر ، بل بالدم والتضحيات الجسام من خيرة المناضلين ، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية . فقد امتازت ذاكرته بالحيادية والاعتدال ، اعطى لكل ذي حق حقه ، دونما مواربة أو نسيان . وكان للصورة الفوتوغرافية دور في تحقيق المعنى ، سواء للشخصيات التي عاصرها أو سمع عنها ، أو للأمكنة العامة والخاصة . كذلك سجّل سيرة مهمة للمأكولات الشعبية ، وكل ما كان يحفل به المطبخ العراقي . فالمدينة زاخرة بمنتجات نهر الفرات . الباحث أسهب بشكل ملفت للنظر في التطرق إلى المأكولات الشعبية حصراً ، ثم عرج إلى طبيعة الإنسان في المدينة ، وما كانوا يتحلون به من ذوق وكرم واخلاص لبعضهم وللوطن والشعب . ومن الأكلات ( عيش نشاب، شيخ محشي ، المسموطة ، المهروثة ، صيّد الكَدر ، مطبك سمك ، محروكـَ اصبعه ، مرقة سمك( سمك طبخ) . كذلك تطرق للمهن كالحياكة وصناعة الأسّرة ، ومحال الصباغة ، وتصنيع الخل والطُرشي ، والمشروبات الغازية ، الصفافير. ثم تدرج للألعاب الشعبية مثل ( لعبة المحيبس ،والصينية ) وتطرق إلى الحمّامات العامة والمقاهي . والطقوس الدينية والأعياد وحفلات الختان والزواج . وسجّل أسماء المحلات في المدينة وما كانت تتصف به عبر أهلها من كرم ، حيث استشهد بالبيت الشعري الآتي تأكيداً على كرم أهل المدينة :
( يا ضيّفنا لوزرتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت رب المنزلِ )
ولم يترك صغيرة أو كبيرة ، إلا دونها ، فقد استشرف الطفولة والنشأة والدراسة . كما وتطرق إلى وثبة كانون ، فقد عاصرها بدقة المناضل الواعي .وقد سجّل انطباعاته عن المناضلين ، والأدباء والفنانين ومن بينهم ( فهد والشبيببي ، ورشاد حاتم ، خليل إبراهيم العبيدي الملقب بـ (أبو الهوب ) ) كذلك ما جرى لهم في سجن بعقوبة ، وختم مفكرته بنشيد مهم كان يردده المناضلون في السجون وهو :
السجن ليس لنا نحن الأباة...
... السجن للمجرمين الطغاة
ولكننا سنصمد .. سنصمد ....
.. وأن لنا مستقبلاً مشرق
لنا الغدُ .. لنا الغدُ ...
.... حيث تنصب المشانق
للمجرمين الطغاة
وبعد اطلاق سراحه ، عزم على اكمال دراسته العليا . إذ كانت تركيا موئله الأخير . تابع وجوده في اسطنبول ، ودراسته حتى تخرجه في عام 1962 ومن بعد ذلك مزاولته لوظيفة الطب ، والتي شكّلت عنده انجازاً كتاب سيرة وظيفية حتى وصوله إلى فترة إحالته على التقاعد سوف يرى النور في قابل الأيام .
كتب له ملاحظات وانطباعات كل من ( الباحث حسين الجبوري ، والاستاذ حميد الطرفي والأديب سلام القريني .إذ تميّزت ملاحظاتهم بالصدق والألفة والمحبة ، والتقدير لما كتبه من سيرة . وبهذا نكون قد أنهينا تجوالنا في مساحة وفضاء نقيين ، حاول كاتب السيرة أن يكون أميناً ، وغير مبالغ في كل ما ذكر ودون ..
