اعتدنا على أن نشفي غليلنا ممن أساء لنا وأن نلتم ممن لا يريحنا ونسأم ونتمنى الموت لمن اتعبنا وهو نفسه متعب مألوم مبتلى بداءً لا يشفى. هذه أمور صحبت الإنسان في أحوال وتسامى بالتضحية واحتملها بصمت. وبعض كان له تصرف واجتهاد آخر رآه هو الصواب الذي لابد منه. مشكلة هي في كل حال.
نحن اليوم لسنا في موضع اللوم أو التقويم، لكننا أمام ما يؤلم الإنسان حد استنفاد طاقته على الاحتمال، نحن في حرجنا أمام اللاحل..
إنسان فرد في عائلة، بين والديه وأخته يستيقظ صباحاً فيجد نفسه استحال الى حشرة كبيرة في البيت! فقد شكله البشري وقدرته على الكلام وما يميز البشر في طريقة العيش طعاماً وحركةً. فهو لصق الحائط أو بين المقاعد، بعيداً عن الضوء. هذه هي مأساة الإنسان ومحنته جسدها “كافكا” في “المسخ” أو في “التحول”، كما تقول الترجمة الحرفية.
هي ليست محنة هذا الإنسان الذي صار حشرة حسب، هي محنة العائلة كلها. هم ينظرون لأبنهم، لفرد منهم وهو ينظر لهم بعينيه الصغيرتين لا يستطيعون معه الكلام ولا يستطيع. ماذا يفعلون؟ هو ابتلي بحال لا يد له فيها وهم لا يملكون حلاً ولا يدرون ما يفعلون. ونحن، مع من نتعاطى؟ أكيد معه. لكن أكيد أيضاً أننا نفكر بألم مع والديه ونشعر بأننا معهم في المحنة. نحن ربما صرنا نرثي لأنفسنا، خشية ان يصيبنا شرٌ مثل هذا.. الموجع أكثر هو شعورنا بالعجز، بصغرنا وضعفنا ولا عون!
“مسخ” كافكا لتأكيد الجانب الإنساني وكشف مدى عمقه وللتذكير بإنسانيتنا وهي تُمتَحن في حال مثل هذه. وأرى ان الاهمية الإنسانية لهذا العمل، لا غيرها، وراء أهميته الادبية. المسألة ليست انشاءً وسرداً، كما ان التقنية بسيطة بساطة حكاية. لكن هذا النص الادبي وضعنا في امتحان مرير، أمام قدر الإنسان، وماذا نفعل. هل نترك إنسانا عزيزاً، واحداً من عائلتنا الصغيرة، أو عائلتنا الإنسانية الكبيرة، في محنته ونواصل الحياة؟ لكن النظر اليه والشعور بمحنته ينغص حياتنا فنحن في عذاب يومي، واحدٌ منا صار حشرة، فهو يدب، يلتصق بالسطح أو بساق منضدة نأكل عليها! هذا الحرج الصعب خض كل إنسانيتنا، وضعنا أمام عجزنا الحقيقي وحاصرنا يريد اعترافنا بهذا العجز وبحدود تحملنا وهل سنواصل الحياة و واحد منا وحيد في محنته أو يموت أمامنا ونحن نرى؟
لا ألوم الناس ولا أدعي معرفة بحل ولكنني اقول : هكذا نحن في المحنة. وأن إنسانيتنا معرضة لاضطهاد شنيع مثل هذا و لما هو مرعب ينغصها وان الإنسان، مهما قلنا، يظل أخيراً وحيداً في محنته!
الاحوال مختلفات، لكن جوهرها الاسود واحد. قد يكون مرضاً معضلاً أو ان الحاكم سيضرب عنقه. احوال كثيرة شبيهة لا نستطيع فيها فعل شيء. في الاحوال كلها سينتهي الامر وسينسون أو ننسى وسيمضي هذا الجيل وتنتقل المأساة أو شبيهتها الى جيل آخر. ليس غير ان ننسى وأن يمسح المأساة الزمان لتعود.. نحن في الكتابات الادبية ننشغل أحياناً بتفاهات لا أهمية لها ثم نشكو من عدم الاهتمام بما نكتب. هكذا موضوع، مثل المسخ أو سواه، من محن الإنسان وأقداره وكشف حقائقه، سيبقى اجيالاً قبل أن يستحيل اسطورة او يتخذ شكلاً تعبيرياً آخر.. وسيصحبنا في الحياة!
هو صار حشرة ينظر لعائلته يأكلون أو يغيرون ثيابهم وقد يضحكون أو يخرجون في زيارة .. ماذا يستطيعون ان يفعلوا وقد طال الامر ولا حل ولا أمل بمعجزة أو حدث ينقذه وينقذهم وهم بشرٌ يجب أن يعيشوا ؟ بدأ التعب منه وبدأت الرغبة في الخلاص أو في الرضا بغيابه. ظهر هذا حين اتضح شعور الاخت، وهي الأرق عادةً، أن لا حل. حضر الشعور، تجرأت على البوح بالتخلص منه. العذر الآن لتحرره وتحررهم منه.
لكن هذا التفكير أو هذا الشعور لا ينفي حقيقة حدود قدرتنا على التحمل وأن لا استمرارية للمحبة. هذا التفكير يظهر انحرافاً في إنسانيتنا وان كان انحرافاً مهذباً ومصحوباً بالاسف.
اتضح التعب من إنسان عزيز عليهم، واحد منهم واتضحت الرغبة، بل أعلنت ، في التخلص منه ! أكرر القول، لا ألومهم ولكنها حقيقتنا البشرية وحدود إنسانيتنا وقد وصلنا الى اقصاها. وهي نهاية الشعور الإنساني الذي يبقي الحياة حياةً!
الصدفة، انهم لحظة مدوا أيديهم للتخلص منه ورميه خارجاً، وجدوه ميتاً، رأس حشرة وحراشف يابسة!
هكذا إذاً ؟ لا أظن القصة انتهت فالألم استمر حتى وصَلَنا ونحن نقرأ عنه والمحنة تلامسنا اليوم وصامتين يوجعنا التعاطف اللامجدي. هو درس في الإنسانية وهو كشف لما يعانيه ويواجهه ويمتحن به بعض الناس. عظمة الرواية في هذه التذكرة أو هذا الدرس. الضربة الاخيرة : انه حين أدرك انهم تعبوا منه وان حبهم نضب، هو أيضاً فقد الحياة. ليس وحده الذي مات!.