ماذا يعني انتحار المجرم أبي بكر البغدادي؟، هل جاء هكذا عفو الخاطر؟ لِمَ لَمْ يقاوم حتى يقتل؟ أكان لديه أمل في النجاة؟ لماذا هيَّأ نفسه مسبقاً للانتحار؟ ولماذا أشرك زوجتيه بالعملية؟ أسئلة كثيرة أثارتها العملية الدراماتيكية التي جسّدها البغدادي، وأعتقد جازماً بأنه خطط لذلك الاستعراض بصورة متعمّدة، وفي ظنّه وهو يهوى الاستعراضات بأنه سيصبح بطلاً، فعند القبض على الدكتاتور المقبور صدام حسين أشيعت بين الناس مقولة (لو أنه انتحر كما فعل هتلر لكان أحفظ لماء وجهه)، فهل أراد البغدادي حفظ ماء وجهه، بعد سلسلة الجرائم المنكرة التي ارتكبها بحق الأبرياء العزل من مختلف الطوائف والجنسيات والأديان؟ أم أنه أراد أن يبقى استعراضياً حتى آخر لحظة في حياته في إدارة التوحّش ليترك لأتباعه رسالة لمواصلة النهج؟ هل شعر بأنّه خسر كل ما يملك فلعب بآخر ورقة ليبقي الباب مفتوحاً لمنهج العنف وشرعية الانتحار؟ أم أنه تفادى احتمالات أسره وأسر عائلته ومن ثمّ محاكمته وإعدامه وربما استلال المعلومات الأمنية عن خلاياه النائمة سواء منه أم من زوجتيه؟
كل الاحتمالات واردة، لكن هل مقتل البغدادي سينهي تنظيم داعش؟ أو بالأحرى هل سينهي ثقافة العنف والتكفير ومنهج التوحّش؟ فقد قتل ابن لادن وقبله الزرقاوي وعشرات القادة من التنظيمات الإرهابية، لكن الإرهاب لم ينتهِ مشروعاً وعقيدة ومنهجاً، بل ازداد وحشية، لأن هناك قوى تغذي هذه التوجهات، وتتخذ من هذه التنظيمات أدوات لتحقيق مآربها، وهناك فكر معلن ينتهج التكفير والتطرف ويشرعن قتل الآخر المختلف، وهناك مؤسسات ومدارس تربّي أجيالاً وأجيالاً على نهج
التطرّف.
انتحار البغدادي لا يخلو من رمزية تغذي روح التوحّش في الخلايا النائمة للتنظيم، وعملية استمكانه أيضاً تمثل رمزية مقابلة عند الأميركان، فقد صعدت عملية مقتل ابن لادن من شعبية أوباما، وسيقطف ترامب ثمار مقتل البغدادي كسلفه، والانتخابات الأميركية على الأبواب، ومثلما صعدت عملية انسحاب القوات الأميركية من العراق شعبية أوباما ستصعد عملية انسحاب القوات الأميركية من سورية شعبية ترامب، وهذا الذي قلنا عنه يمثل الذهنية الأميركية الرأسمالية البرغماتية الصريحة، ووصفه البعض بالأرعن، يسير على خطى سلفه في الحصول على ولاية
ثانية.
غالبية المدونين في مواقع التواصل الاجتماعي اتفقوا على أن (ابن لادن والزرقاوي والبغدادي صنيعة أميركية وما أن تصفي واحداً حتى تأتي بآخر) إلا أن الواقع هذه المرة مختلف، فالبغدادي قد نصب أقرب المقربين إليه خليفة من بعده وهو المدعو عبد الله قرداش، زميله في سجن بوكا وأول المستقبلين له في الموصل، ويعد من أخطر وأشرس قيادات التنظيم وأكثرهم تشدداً، فإذا كانت استراتيجية تنظيم القاعدة تعتمد آلية الخلايا الخيطية المتباعدة، فداعش تعتمد استراتيجية بنية الدولة والمسؤولية المركزية (الخلافة والولايات والدواوين)، لكن على الأرض خسرت داعش آخر معاقلها في العراق وسورية وستنشط حتماً في شمال إفريقيا لا سيما في
ليبيا.