ديفد إغناشيوس ترجمة: انيس الصفار
محاولة التكهن بما يجري في الشرق الأوسط قد تكون لعبة سذاجة، مع هذا دعنا نتأمل هذا الاحتمال: الغلو المفرط الذي يمثله أبو بكر البغدادي ربما يكون قد بلغ أوجه، ولكن مسعاه الوحشي لبناء “دولة الخلافة” لم يخلف وراءه شيئاً غير اكوام من الرماد، ويبدو أن كثيراً من المسلمين اليافعين قد وعوا هذا وأدركوه.
لقد خلق البغدادي حركة كانت مسرحاً دائماً للعنف، وكانت علامته المسجلة بث مقاطع فيديو تصور القسوة بأقصى وأبشع معانيها، قطع رؤوس الأسرى أو اغراقهم داخل أقفاص مقفلة، او إضرام النار بهم. هذا الخراب المدمر والصور الفاحشة قصد منها أن تحدث صدمة وتثير غضباً.
ولكن في الوقت نفسه أن تجتذب المجندين من صغار السن. في البداية تحقق النجاح كاملاً وبكل الأبعاد، وقد يكون من الصعب اليوم تذكر تلك الحمى الجنونية المسمومة التي اجتذبت المسلمين من شتى انحاء العالم الى “دولة الخلافة” المزعومة إبان أوجها الذهبي في العام 2014.
بيد أن عصر الخلافة قد أدبر، وخلال الاسابيع التي سبقت مقتل البغدادي كان الشبان العرب قد تدفقوا الى الطرقات في بيروت والقاهرة وبغداد وغيرها من المدن العربية مطالبين بالتغيير، ولكن التغيير الذي ارادوه ليس عكس حركة التاريخ الى زمن ميلاد النبي محمد في القرن السادس الميلادي. حركات الاحتجاج الجديدة عصرية علمانية وهي سلمية بوجه عام.
تنظيم “الدولة الاسلامية” لا يزال يمثل خطراً مهلكاً، خصوصاً حين تسعى البقايا المندحرة الى الأخذ بثأر زعيمها الهالك. بيد أن الناجين من أفراد التنظيم سوف يواجهون صعوبة في العثور على خليفة يضاهي البغدادي في قدرته على الجمع بين فقيه ديني وجلاد متعطش للدماء.
يقول “وليام مكانتس” مؤلف كتاب “فناء داعش”، وهو احد افضل الكتب التي تناولت هذه الجماعة: “هنالك على ما يبدو بندول أخذ يتأرجح عائداً الى نمط الاحتجاجات الجماهيرية.” ثم يمضي مذكراً بأن انطلاق فورة “داعش” كان قد سبقها تحرك جماهيري مماثل عرف باسم “الربيع العربي”، لذلك يحذر قائلاً: “ما لم تنجح طاقة الاحتجاج في انتاج الثمرة هذه المرة فسوف يكون هناك احتمال حدوث تفجر عنفي جديد.”
يقول محلل مرموق: “العالم العربي يقف اليوم على مفترق طرق.” ثم يمضي مشيراً الى أن تنظيم “الدولة الاسلامية” قد أصيب بأضرار قاصمة: فهو قد خسر خلافته وفقد زخمه الشعبي ثم هاهو اليوم يفقد قائده. لذلك سيتوجه الشباب العرب الان صوب خيارات مختلفة متاحة امامهم للتعبير عن غضبهم.
التظاهرات الاحتجاجية التي خرجت الى الشارع في لبنان والعراق ومصر خلال الاسابيع الأخيرة يجمعها نداء مشترك هو النقمة الشعبية على فساد المسؤولين الحكوميين. أنظمة الحكم في البلدان الثلاثة مختلفة عن بعضها تماماً، ولكنها كلها تتلقى الضربات على يد مطالبات متشابهة بالتغيير آتية من القاعدة صعوداً.
حركات التغيير هذه باتت ملموسة اليوم حتى في البلدان التي تحكمها انظمة متحكّمة مثل السعودية وإيران. في كلا هذين البلدين كان العامل الكبير الملحوظ هو ضغط النساء للحصول على سلطات اجتماعية وسياسية أكبر، وفي الرياض وطهران معاً على سبيل المثال تطالب حركات ذات صوت مسموع بالسماح للنساء أن يظهرن علناً دون ارتداء الحجاب، وهو غطاء الرأس التقليدي في الاسلام.
لقد كانت السعودية ذات يوم هي المصدر الخفي الداعم للأصولية ، وهذه بدورها كانت قاعدة الاسناد الخلفي للجماعات المتطرفة من امثال تنظيم “الدولة الاسلامية”، بيد أن هذا الوصف لم يعد ينطبق على السنوات الأخيرة. الناطق باسم هذا المنظور السعودي الديني الأكثر اعتدالاً هو الشيخ محمد العيسى رئيس “رابطة العالم الاسلامي” التي مقرها الرياض. سألته في مقابلة اجريتها معه في الاسبوع الماضي عما سيفعله لو قررت ابنته خلع حجابها. قال العيسى أنه سيحاول اقناعها بالكلام من منطلق ديني، وإذا ما أصرّت سوف ينزل عند خيارها. هذا القول مختلف عما كان يتحدث به علماء الدين السعوديين في الماضي.حركة الاحتجاج اللبنانية قد تكون هي الاكثر اثارة للاهتمام لأنها قاربت بين الشبان من المسلمين السنة والمسلمين الشيعة والمسيحيين. هذه الاحتجاجات تطالب بتغيير المؤسسة السياسية بأكملها، لا الأباطرة السياسيين الاثرياء وحدهم بل ايضاً جماعة حزب الله التي تدعمها إيران. المحتجون السنّة في مدينة طرابلس السنيّة في الشمال رفعوا عقائرهم بالهتاف دعماً للمحتجين الشيعة في مدينة صور في الجنوب، والعكس بالعكس.
من خلال مقابلة معه بالهاتف من بيروت قال روبرت فاضل، وهو عضو برلمان سابق نزل الى الشارع مع المحتجين: “لبنان قد يكون أول بلد عربي يدخل عصر ما بعد الطائفية.” أمام هذه الموجة الجماهيرية الهادرة حاول حزب الله أن يتشبث بإبقاء الحال على ما هو عليه.
الثقافة السياسية في العالم العربي مفككة مشتتة، لهذا غالباً ما تنتهي المطالبات الشعبية بالتغيير الى الفوضى وهذه بدورها تجر الى جولة جديدة من الحكم السلطوي المستبد. هذا هو عين ما حدث في مصر والعديد من الدول الاخرى التي اجتاحها الربيع العربي في العام 2011. فالحركات الشعبية لا تنجح في صنع زعماء قادرين على تحويل التغيير الى شيء يتعدى الشعارات.
الفراغ ما بعد البغدادي ربما سينتج متطرفاً جديداً يتمتع بهالة كارزمية، وهذا سوف يوقد نيران الغضب من جديد. لهذا تبقى اليقظة ضد الارهاب متطلباً اساسياً في التعامل مع بقايا تنظيم “الدولة الاسلامية”.
لكن ثمة شيء آخر هو الذي يحرك العالم العربي هذه الأيام، هذا الشيء ليس الاناشيد الاسلامية التي تصاحب مشاهد قطع الرؤوس، بل هو شيء مختلف .. إنه حركة علمانية متشددة كل مطلبها هو التغيير.
/عن صحيفة واشنطن بوست