الابتزاز الإعلامي

آراء 2019/10/30
...

د. حسين القاصد 
 
لن يستغرب المواطن حين يخضع لابتزاز ما من أيّ موظف تطبّع بالفساد، ويحدث هذا كثيرا، لا سيما في المؤسسات الحكومية التي تملك كوادر ميدانية، إذ يشعر الموظف الميداني أنه بلا رقيب، فيجعل من القوانين الضابطة للحياة سوطا يجلد به المواطن إلى أن يتطبّع المواطن، هو الآخر، بالفساد، بل يبادر بإغراء الموظف به. 
يحدث ذلك بشكل يومي في نقاط التفتيش وفي مفارز الدوائر البلدية وفي مراكز الدوائر في أغلب الأحيان؛ فمن منا انقطع التيار الكهربائي عن بيته، فبادرت دائرة الكهرباء لإصلاح العطب وإعادة الكهرباء، من دون مراجعات مصحوبة بمبلغ مالي (رشوة) مع مزيد من التوسّل والتذلل، وكأنّ العمل الذي يؤديه موظف الكهرباء لا يتقاضى عليه راتبا شهريا، بل كأنّ المواطن ارتكب جرما فيحكم عليه بالظلام إلى أن يدفع دية الضوء (رشوة) فتعود الكهرباء بعد أن تنفرج ملامح الوجوه وتهيمن الابتسامة الصفراء على الملامح. 
هكذا تكون القوانين سوطاً لجلد المواطن ثم تصبح رزقا سحتا للذي يبيع القانون برشوة، وهو ما يحدث في أغلب الدوائر ذات التماس المباشر بهموم المواطن اليومية؛ بل يصدف أن يجتمع ثلاثة موظفين من ثلاث جهات، وهو ما يحدث في تقاطعات الشوارع التي تحولت إلى كراجات بعد اتفاق معلن يراه الناس يومياً إذ يقوم صاحب الباص بدفع الرشوة ليقتطع جزءا من الشارع وتقوم الجهة التي تسلّمت الرشوة بتوفير الحماية وتنظيم دوره مع الباصات
الأخرى. 
كل أشكال الفساد هذه، يقوم الاعلام بوصفه السلطة الرابعة بكشفها، لكي يراها المعنيون ويحدوا من انتشارها ويقوموا بملاحقة الفاسدين؛ لكننا نصدم بفساد من نوع آخر، هو فساد مزدوج يتم بصفقات بين الاعلاميين والدوائر التي تسجل عليها مؤشرات وأدلة تدين موظفيها بالفساد، فيقوم المراسل التلفزيوني برصد السلبيات وحالات الفساد ثم يبدأ المراسل بمساومة الدائرة او الوزارة التي رصد حالة فساد فيها، فتبدأ الدائرة او الوزارة المعنية بالتودد للمراسل وتقديم مبلغ مالي هدية (رشوة) له، وهنا يبدأ الخراب حين يتحول الرقيب إلى فاسد وخائن للأمانة 
المهنية. 
 ومثل هذا المراسل هناك برامج تنتقد سوء الخدمات وحالات الفساد؛ وبمنتهى المكر يقوم مقدم البرنامج بالتنويه بأنه سيتناول في الحلقة المقبلة الوزارة او الدائرة الفلانية، فيسرع مدير إعلام الجهة المستهدفة لطلب ود كادر البرنامج وتقديم الهدية (الرشوة) فيغلق الموضوع ويغض
 النظر. 
لكن الأسوأ من هذا هو أن تقوم صفحات تواصل اجتماعي ممولة برصد حالات الفساد في دائرة ما، فتتبرع الدائرة بدعم صفحته مع هدية مالية ليقوم صاحب الصفحة برصد الايجابيات ويتحول من مراقب إلى داعم. 
فكيف يتخلّص المواطن من الابتزاز اذا كان الرقيب مرتشيا أيضا ؟ 
ومن سيراقب الرقيب؟ نحتاج إلى صولة حقيقية تقوم بها الحكومة على مفاصل الفساد في الدوائر وجرد الذمم المالية والتأكد من تبويبات الصرف المالي، ونحتاج الى جهات رقابية تلاحق الجرائم الادارية من فساد وبيع للدرجات الوظيفية، لكي يعود الوئام بين المواطن ودوائر الدولة، وتعود الثقة وينتعش نبض المواطنة الحقة.