القضية الأساسية التي نبحث فيها هي التحديات يتعرّض لها المثقف العراقي وتراجع دوره في ظل التنميط الثقافي العولمي، وكذلك التنميط الثقافي السياسي المحلي المتمثل في غياب الرؤية الوطنية، في ظل نمطية الأيديولوجيات الدينية والأممية والقومية وتراجع أو بالأحرى غياب زمنها وفق خط واحد يرى الآخر عدواً
له.
ففي الحالة الأولى، يعيش المثقف العراقي تحولات عولمية وهو يعيش تواصلا ثقافيا واسع النطاق وهو مقيد في بعض الأحيان بنمطية دور المثقف التقليدي، حتى برزت أجيال جديدة من المثقفين الشباب الذين اخذوا يشكلون وعيا جديداً بناءً على المعطيات الرقمية والأفكار التواصلية التي وضعت العلاقات الاجتماعية في الأسرة أمام تحدٍّ كبير
، عندما عاش الآباء في واد، والأبناء في واد آخر، بصيغة تختلف عن مرحلة الصراع التقليدي بين الأجيال
، فالمثقف وجد نفسه بشكل مباشر أو غير مباشر أمام خيار صعب إما الانخراط في اقتصاد السوق وتقليد ثقافة وافدة دون استطاعته التأكيد على هويته الوطنية حتى وقع في دائرة الثقافات المحلية الضيقة من حيث يدري ولا يدري
، وربما دون وعي متكامل منه في قفص الثقافة العولمية وهذا بحد ذاته يمثل انتهاكاً للفكر الوطني الديمقراطي (التجربة المجتمعية المستمدة من قيم المجتمع نفسه).
أو يكون ثوريا رافضا لكل أشكال التنميط وفي هذه الحالة سيواجه تحديا اكبر نظرا لفقدانه آليات التصدي والتعبئة الشعبية بعد أن أصبح البعد الأيديولوجي التقليدي خارج نطاق اللعبة
، فيقع في دائرة التهميش والانكفاء على الذات، وفي هذا أيضا انتهاك لكرامته وقيمه كمثقف أصيل حتى عاش هذا النوع من المثقفين حالة انعزال واغتراب وبذلك غاب دوره الخلاق في الدفاع عن قضية رأي عام تحتاج الى وقفة شجاعة
واعية.
أما الناحية الثانية فهي حالة التنميط المحلي إذ أدت سياسات النظم الشمولية في العراق منذ سنة 1958 الى وضع المثقف في عجلة النظام يدور حيث دارت وقد فرضت هذه المرحلة اختبارات محكية عندما هرول أكثر البعض الى الترويج لايدولوجيات تلك النظم تحركهم أما مصالح فردية أم أنهم وقعوا في وهم الأيدلوجيات (التحرريّة) حتى فقدوا قدرة قول الحق وهم يرون الباطل أمامهم ظاهرا ومتحققا
، فالكثير منهم سكت والقليل منهم انسحب ملتحقا بالاصلاء من المثقفين الذي انسحبوا مبكرا أو جاهروا برفض الأحادية في الرأي ومقارعة
التسلط.
إنّ المرحلة الحالية تتيح للمثقف إعادة دوره الحقيقي في تبني قضايا المجتمع الأساسية، ولاسيما في خضم التظاهرات الشعبية في بعض البلاد العربية ومنها العراق، وهنا ينبغي أن ينبري المثقف في وضع إطار مقنن للحقوق المشروعة للإنسان العراقي الذي عاش ما يقارب ستة عشر عاماً وهو يأمل في الخروج من دائرة القرار الانفرادي الى دائرة الديمقراطية التي تتيح للجميع التعبير عن آرائها واختيار أسلوب الحياة التي يتلاءم مع الحياة المعاصرة
، إلا أن هذا الدور لم يأخذ نصيبه الكامل في تبني قضايا الإنسان العراقي ومعاناته المتراكمة فلم يقدم للدولة رؤية واقعية عن حاجات الإنسان في المجالات المختلفة، وانغمس الكثير منهم في خانة العرقي أو الطائفي أو المناطقي ما أضاع على نفسه فرصة القيام بدور المثقف الحقيقي الذي يشعر بمعاناة الإنسان ويسعى الى تبني مطاليبه المشروعة من اجل حياة
كريمة.
إنّ الشباب اليوم حمل لواء المثقف وقام بدوره في التعبير عن حقوقه الدستورية في ظل أجواء تسمح للإنسان التعبير عن آرائه على وفق دائرة الاصطفاف التي وجد نفسه فيها أو على وفق الرؤية لطبيعة الحاجات الآنية التي يفتقدها في ظل ظروف صعبة ينهش الفساد والمحاصصة فيها بجسد المجتمع على طوال الفترة الماضية
، إن الشباب اليوم في مشهد يعبر بشكل مباشر عن دور المثقف، أما من يدعون أنهم في خانة المثقفين فلا يزال الكثير منهم يفتقد الرؤية الموضوعية عن أدوارهم
الحقيقية.
إنّ الدولة في ظرفها الذي لا تُحسد عليه عاجزة عن التفاعل مع المثقف وكأن الجفاء المزمن بين السياسي والمثقف لا يزال مفعوله قويا ومؤثرا، وحتى الذي اعتلوه السلطة والذي كان يشار إليهم بالكتاب أو الخبراء أو المفكرين باهتمامهم بهموم الإنسان وجدوا أنفسهم اليوم في خصام مع المثقف، كما أن هذا المثقف نفسه فقد آليات الدور الذي ينبغي أن يقوم به إزاء قضايا شعب ينشد العدالة وبناء الدولة
المدنية.
إنّ نظرة سريعة لما يحصل في الشارع العراقي من تظاهرات واسعة إنما يمثل احد بنود الديمقراطية التي بها يعبر الإنسان عن حقوقه بطريقة سلمية، وأي خروج عن هذا الإطار إنما يلحق ضررا بليغا في بنية الدولة والإنسان المتظاهر نفسه، وعليه فالحوار الوطني هو احد المخارج الأساسية لعلاج المشكلات ووضع جدول زمني للارتقاء بالواقع المعيشي، ولعل أول هذه المخارج هو خفض الضرائب وخفض أسعار الوقود الى أدنى حد يسمح به
، وهو ما تنعكس بآثاره ايجابيا على الواقع المعيشي للمواطن إذ يشكل ارتفاع أسعار النقل بمختلف إشكالها ولاسيما النقل التجاري إي نقل السلع احد الأسباب الأساسية لارتفاع الأسعار، ومن هنا ينبغي على المثقف تبني أفكار واقعية تلامس مباشرة حاجات الإنسان، ولكم يظهر أن هذا الدور لا يزال محدودا ونسبيا.