أماني حياد النداوي
قبل نحو أربعة عقود كشفت الكاتبة الأميركية (ماري وين) عن ظاهرة اجتماعية وتربوية خطيرة حينذاك في كتابها الموسوم (الأطفال والإدمان التلفزيوني) عندما كان جهاز التلفزيون يفرض هيمنته المطلقة على المشهد الإعلامي، وأوضحت أن: “ثمة تشابها في تجربة المشاهدة التليفزيونية كلها، بغض النظر عن مضمون البرامج، ذلك أن آليات فسيولوجية معينة في العين والأذن والدماغ تستجيب للمثيرات المنبعثة من شاشة التليفزيون بصرف النظر عن المضمون المعرفي للبرامج.
إنه عمل ذو اتجاه واحد يستغرق وقتاً غير محدد ويستلزم تلقي مادة حسية خاصة بطريقة معينة مهما كانت تلك المادة”.. وهو ما يمكن وصفه بالإدمان، وحسب نتائج هذه الدراسة فقد أصبحت مشاهدة التلفزيون عادة سلوكية ترافق الطفل منذ سنواته الأول، قبل المدرسة وأثناءها، وأن مخاطر الإدمان لا تتمثل في نوعية المشاهدة فحسب، وبخاصة برامج العنف والخيال المفرط، ولكن في كيفية المشاهدة ووقتها واستمرارها، الأمر الذي يجعل الطفل مشدوداً لذلك الجهاز العجيب الذي قد يحرمه من التواصل الطبيعي مع الوالدين وأفراد الأسرة والأصدقاء، ويسرق وقت الواجبات الدراسية والمطالعة والرياضة واللعب، ويقدم لعقل الطفل الغض بديلاً برّاقاً زائفاً عن الواقع الحقيقي، وتلك أبرز مخاطر ظاهرة (الإدمان) التي لا تقل خطورة عن الإدمان على العقاقير المخدرة، على المدى الطويل، وقد ينعكس على طبيعة الشخصية البالغة في
المستقبل!
في السنوات الأخيرة، فقد التلفزيون سلطته لصالح جهاز ساحر جديد، هو الهاتف الذكي، الذي أصبح في متناول الصغار والكبار، على حد سواء، وقد ورث الهاتف من التلفزيون بعض خصائصه المهمة، وبخاصة الاندماج بين النصوص والصور والأصوات والمؤثرات، وأضاف إليها تقنيات وتطبيقات تفاعليّة في مجال الدردشة والمشاهدة غير المقيدة والألعاب الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، عبر شبكة الأنترنت، فأصبح مستخدم الهاتف مستغرقاً لأوقات طويلة في الإبحار في فضاءات معلوماتية مفتوحة، بلا حسيب أو رقيب، وبات الأطفال يستخدمون الهاتف، دون قيود أو رقابة أو إشراف عائلي أو تربوي، في الأغلب، ولم يعد المستخدم الصغير قادراً على السيطرة على مضمون المعلومات أو كميتها أو زمنها، ولا يستطيع الطفل منع نفسه من الاندماج مع شاشة الهاتف، ولا شك أن ذلك يمثل نوعاً جديداً من الإدمان الإلكتروني الذي يقتضي من المختصين دراسة انعكاساته على الشخصية حاضراً ومستقبلاً!
من الطرائف التي تروى، وهي ذات مغزى في هذا الصدد، أن المعلمة سألت التلاميذ في أول يوم دراسي: ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟
أجاب الأطفال ببراءة عن أمنياتهم، فمنهم من كان يرغب أن يكون طبيباً، وغيره يطمح أن يكون مهندساً، أو أستاذاً، وآخر رياضياً أو فناناً أو طياراً وغير ذلك كثير من المهن، لكن طفلاً واحداً أجاب بطريقة ذكية مختلفة، فقال: معلمتي العزيزة أريد أن أكون جهاز (موبايل).. فضحكت المعلمة وزملاؤه، لكنه أضاف: أن هذا الجهاز الصغير أصبح أهم من جميع أفراد الأسرة، فالجميع يمسكونه ويطالعون شاشته ويداعبون أزراره وهو المدلل الذي لا يمكن فراقه، ولو انقطع عنه بث الانترنت بضع دقائق، فسوف يشعر الجميع بالاختناق، مثل انقطاع الهواء!
جهاز الهاتف ساحر صغير مدمج ذكي يداعب خيال الطفولة، ويصنع الأحلام الجميلة، ويقدم الألعاب والتسلية التفاعلية، ويعرض تجربة الحياة والمعرفة، بلا حدود، فيغترف الطفل من تلك المعلومات فوق درجة الإشباع، ويتواصل فوق قدرات الدماغ، ويستمر التفاعل معه خارج حساب الوقت، وذلك كله من علامات الإدمان الإلكتروني الذي يجب الانتباه لنتائجه السلبية، فتقنيات التواصل الجديدة، نعمة لو أحسن استخدامها، ونقمة إذا تجاوزت حد التفريط نحو الإفراط، وعلينا أن نجعل من التربية الرقمية المعلوماتية مفردة جديدة في قاموس الأسرة والمدرسة من أجل بناء جيل يستخدم هذه التقنيات ويتفاعل معها ويستفيد منها، والعمل على تقليل مخاطرها المحتملة عبر الإشراف وتنظيم الوقت وتحديد المضمون الملائم!