نساءٌ يعملنَ بمهنٍ تستهلكهنَّ نفسيّاً وبدنيّاً

اسرة ومجتمع 2019/11/01
...

بغداد/ مآب عامر
تجلس وهي تلفّ نفسها بعباءة مهترئة ذهب عنها لونها الأسود على رصيف أمام بيت متهالك، وإلى يمينها دلو (سطل بلاستيكي) كان نصفه يمتلئ بالماء وبداخله تتحرّك سمكة بينما الصينية التي بقربه تعرض عددا من الأسماك غير الحيّة.
تنظر سعادة التي تبلغ (64 عاماً) وتعيش في عشوائيات “الصابيات”، إلى دلو الماء وهي تداعب حركات السمكة، وتقول بسخرية، “أعمل، وكيف لي أن أعيش؟”، ثمّ تثني وجهها الطاعن بتجاعيده على يدها لتكمل حديثها “أجلب السمك من العلوة لابيعه هنا، كانت سمكتان واحدة منهما ماتت، أبيع الحية بخمسة الاف دينار، والميتة بأربعة الاف دينار”. 
وتواجه سعادة ظروفا معيشية صعبة للغاية، إذ تعيش مع ولدها المعاق وحدهما ما يجعلها ملتزمة بتوفير لقمة العيش. ومع ذلك، تقول إنّ “بيع سمكتين باليوم يمكنها وابنها من الاستمرار بالحياة”.
وتعد عشوائيات الصابيات التي استحدثت في عام 2006، ملاذاً للأسر الهاربة من المدن والقرى والمحافظات العراقية بسبب الصراعات والحروب، إذ يعيش أربعة ملايين عراقي من الفقراء والنازحين في العراق ككل، وفي العاصمة بغداد فقط هناك (1000) عشوائية، حسب دراسة القسم الإحصائي في وزارة التخطيط والانماء 
العراقي.
 
دكان ألبسة ومستلزمات منزليَّة
على جانب آخر من هذه العشوائيات يقع كشك أم سيف “38 عاما” الذي انشأته من قطع (الچينكو)، إذ ثبتت على إحدى جدرانه السميكة بسمارا واحدا علّقت عليه فستان سهرة أحمر ويحمل شكل وردة من جانب الخصر مطرزة بشذر فضي اللون. 
من الممكن أن هذا الفستان هو من أثمن محتويات المحل الذي اتسم ببساطة لا تختلف مع هيئة الدكان الخارجية، إذ احتوى بعض الألبسة المنزلية التي علقت بداخله على الأعمدة الساندة له، أما الواجهة الامامية للدكان فقد وضعت طاولة مملوءة بأحذية للأطفال.
وتشكو أم سيف وهي بداخل دكانها الذي لا يخلو من عرضها لبعض المستلزمات الرئيسة للطعام كالملاعق والقدور للبيع، من قلة الطلب والشراء، إذ يصعب عليها أن توفر بعملها هذا فضلا عن عمل أولادها الاثنين تكاليف دواء زوجها الذي يجلس طريح الفراش، وتقول: “إنّه يعاني من جلطة صدريّة، يلزم أن أوفر له حقنتين في اليوم الواحد، والتي يصل سعرها الى (25) الف دينار، غير إصابته بانزاق في عظام الظهر”. 
 
خياطات المنطقة
وتدين أم يوسف لعدد من النساء اللواتي يعملن بالخياطة بمنطقة العشوائيات بالفضل لأنّهن مكّنها من تجهيز دكانها ببعض الملابس عن طريق (الدين أو الدفع بالآجل) كما بقية الذين تتعامل معهم لتوفير سلع وبضائع محلها، وتقول: بعض الخياطات يوفرن للمحل بعض هذه الملابس التي أدفع أجورها حال بيعها. 
ونسرين (47 عاماً) واحدة من خياطات المنطقة، إذ بدأت تعمل في الخياطة منذ خمسة أعوام داخل منزلها المشيد من الحديد (الچينكو)، والذي يضم صالة تحوي على فرشة أرضية يغفو عليها ابنها المريض. 
كان يتعيّن على نسرين الجلوس بجانب ابنها المريض دائما لترعاه، لذا قسمت الصالة بستارة تخفي خلفها المطبخ وما تملكه من مستلزمات حياتية بسيطة.
تقول: بعد أن فقدت زوجي وتعرّض ابني للإصابة بالشلل إثر انفجار إرهابي، لم أجد معيلا سوى ماكينة الخياطة. 
 
صناعة الأطعمة والحلوايات
غالبية النساء اللواتي يسكنَّ العشوائيات، إما أرامل أو مطلقات، كما هو حال زينب (19عاماً) والتي عدت نفسها أرملة بعد سنتين من الزواج وفقدان زوجها.
تسكن زينب في بيت مبني من طابوق (بلوك) مع والدتها، وتعمل بصناعة الأطعمة والحلوايات والمأكولات الغذائية التي تكون بحسب الطلبيات التي تصلها عبر هاتفها النقال.
هذا العمل يوفر لها ولوالدتها قدرا من المال لا بأس به، وتقول: “بعد اختفاء زوجي المفاجئ عام 2007، كان عليّ إيجاد وسيلة لتوفير لقمة العيش، ولم يكن أمامي غير صناعة الأطعمة وتوفيرها لزبونات من خارج العشوائيات”.
زينب من الفتيات اللواتي فقدنَ حقوقهن الزوجيّة كافة، لعدم تسجيل زواجها قانونيا، اذ اكتفت بزواج رجل الدين وقتها، تتساءل: وماذا تفعل الحقوق بعدما فقدت شريك حياتي والإنسان الذي كان جديراً بعبارة (الزوج الصالح). 
 
صحتها النفسيّة والبدنيّة
تتعرّض الكثير من النساء اللواتي فقدن المعيل، لتحديات كبيرة تدفعهن لتوفير لقمة العيش سواء داخل العشوائيات أو خارجها، وربما أهم التحديات التي تواجههن هي طبيعة العمل أو نوعيته، فهن بحسب الخبيرة في علم النفس الاجتماعي الدكتورة بشرى الياسري يحاولن قدر المستطاع العمل بمهن بسيطة لا تحملهن عناء الخسارة.
الياسري تعتقد أن غالبية الأعمال التي تقوم بها النساء اللواتي يعشن بوسط أجواء من الفقر والعوز وكذلك لم يكملن تحصيلهن العلمي أو لم يحصلن على شهادات دراسية هي أعمال تعتمد على الجهد البدني أكثر من رأس المال، كما أنها لا توفر لهن غير القليل من المكسب.
وتعترف هناء (42 عاماً) بذلك الجهد الذي تبذله، وتقول: “منذ (9) أعوام وأنا أعمل خبازة بتنور من الطين، لتوفير قوت أطفالي الأربعة”.
فمنذ فقدان زوجها بحادث إرهابي عام 2009 ومقتله، اضطرت للعمل خبازة من أجل أطفالها. ولا تتمتع أحلام بالكثير من الراحة بسبب عملها الذي تقول عنه “يستهلك صحتها النفسيّة والبدنيّة”.