أكثر كلمة تعرضت للهجوم خلال الاحتجاج الشعبي التشريني هي “الأحزاب”، حتى قال الكثير من المتظاهرين “ما نريد انشوف أحزاب”، وكلمة الحزب تعرضت لتشويه عراقي عملياً ونظرياً منذ عقود، فهي الكلمة الحماسيَّة العاطفيَّة المثيرة عندما يتعلق الأمر بتاريخ المآسي وتحديداً المآسي الشيوعيَّة، ثم هي الكلمة الكابوسيَّة المخيفة عندما تتعلق بالبعث منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي وحتى سنوات تلت 2003، ثم هي الكلمة التي تعني اللصوصيَّة والقتل والمحاصصة منذ 2003، وهذا تاريخٌ قاتلٌ لأي كلمة أو مصطلح.
في كل منظومة توجد مجموعة كلمات مفتاحيَّة تحكمُ السياق الذي تحكمه المنظومة، فما انْ نقول مجتمع حتى تقفز كلمة الأسرة او العائلة، وما انْ نقول اقتصاد حتى تتبادر للذهن كلمات مثل العملة والشركة والعمل، وكلما نطقنا بكلمة سياسة تلاحقنا فوراً كلمة حزب، وهي كلمة لا علاقة لها بالنظم الديمقراطيَّة فالناس بغض النظر عن النظم التي تحكمهم، تجمع بينهم أفكارٌ ومصالح وطموحات، وكلما اجتمع عددٌ من البشر حول فكرة أو مصلحة (بغض النظر عن مشروعيتها)، أو ربط بينهم طموح صاروا حزباً، سواء شعروا بذلك أم لا، وسواء أعلنوا عما شعروا به أم كتموا، وسواء انتظموا عملياً ورسمياً أم لا.
وعليه يمكن النظر الى غضب المحتجين على الأحزاب على أنه غضبٌ على الأحزاب الحاكمة أو التي تسيطر على العمل السياسي في العراق، وهي في حقيقتها ليست أحزاباً، إنما هي مشاريع اقتصاديَّة سياسيَّة شخصيَّة أو عائلية وأحياناً تهبطُ الى مستوى العصابة المسلحة التي تشتغلُ في السياسة خلال أوقات الفراغ.
التشويه العراقي لمفهوم “الحزب” لا يعني انتفاء الحاجة الى أحزاب، كما أنَّ صيغ الزواج المنحرفة أو صيغ العمل الاقتصادي الإجراميَّة، لا تعني إلغاء الزواج أو العمل، بل إنَّ العراقيين وفي لحظات التحول الكبرى هم أكثر من يحتاج لحزب أو أحزاب حقيقيَّة، لتعبر عن رغبات وحاجات المواطنين وتنظمها في مطالب سياسيَّة واضحة وعقلانيَّة.
لقد تذمرنا كثيراً من القوى الحزبيَّة المشوهة لكننا لم نشيد بدائل واقعيَّة حتى صار بعض المتهمين بالفساد والقتل يقدم نفسه كبديل لزملائه ما دام المحتجون غير قادرين على تنظيم أنفسهم سياسياً.
المسافة بين الفعل الاحتجاجي والعمل السياسي واسعة، وإذا كان الفعل الاحتجاجي يصل الى حالة القداسة أحياناً فإنَّ فعاليته تبقى رهينة بالقدرة على التحول الى قوة سياسيَّة منتظمة تواجه القوى المرفوضة جماهيرياً، ولو تمكن المحتجون العراقيون في مراحل سابقة من تشكيل تنظيمات حزبيَّة وطنيَّة لقطعت جماهير المحتجين الطريق على التخويف بالفراغ الدستوري والحكومي، ولوجدت هذه الجماهير من يصيغ مطالبها قانونياً حتى لو كان من يمثلها قلة في مجلس النواب، بدلاً من أنْ تنتهي احتجاجاتهم منذ 2011 بصفقة بين القوى الحاكمة نفسها لتحقيق المزيد من مصالحها.
المحتجون يطالبون بوطن وهو ما يعني دولة حديثة تهتم أولاً بالمواطنين وأي دولة بالمعنى الحديث هي دولة مواطنة ودولة ديمقراطية وبالتالي تعترف وتسمح بالنشاط الحزبي، وفي كل ديمقراطية يكون المواطنون المنتظمون حزبياً أقوى من المواطنين المشتتين، وعليه فإنَّ إشاعة الكراهيَّة والرفض للانتظام الحزبي يعني الإبقاء على قوة المتحزبين حالياً مهما كان عددهم، وقلة منتظمة تغلب كثرة عشوائيَّة، وهي الصدمة التي ستلاحق العراقيين دائماً ما داموا متمسكين بالخلط بين المعنى المجرد لكلمة حزب والأداء الكارثي للأحزاب العراقيَّة.