عبدالزهرة محمد الهنداوي
أبو أكثم، ناشطٌ ومدوّنٌ وإعلامي ذي قاري، يحمل وجعاً ذي قارياً عراقياً، يفرغه بلسان عربي مبين، فلديه من سيولة المفردة وانسيابيَّة وترابط الكَلِم، ما يجعله قادراً على التأثير في الآخر، لهذا، ولأن أبا أكثم اكتوى بلوعة فقدان فلذة كبده، شهيدا في معارك تحرير الارض من براثن عصابات داعش الارهابية، فقد شوهد الرجل في التظاهرات التي شهدتها محافظة ذي قار، وهو يطالب بحقوق ابناء جلدته الذين لوعتهم سياط الحرمان، وتردي الخدمات، وتضاؤل فرص العمل، فكان الكثير منهم، يجد في أبي أكثم صوتا عاليا، يصل صداه الى مديات بعيدة..
شخصيا لم أكن أعرف الرجل مطلقا، ولكن عرفته يوم 22 - 10 - 1019، في صبيحة ذلك اليوم كنت في الناصرية، وتحديدا في قاعة محطة الكهرباء، برفقة الدكتور نوري الدليمي وزير التخطيط، الذي ذهب الى المحافظة في اطار مهمته رئيسا للجنة التحققية العليا الخاصة باحداث التظاهرات، ولكي يتسلّم مطالب المتظاهرين، وهناك كان اللقاء بكوكبة كبيرة من ابناء ذي قار، جلّهم من الشباب، كانت مشاعر الغضب هي السائدة في تلك الأجواء، وهو وضع طبيعي، والمحافظة مازالت تعيش حالة من الذهول والحزن والاستياء، بعد ان فقدت 19 شابا سقطوا شهداء خلال التظاهرات التي شهدتها المدينة، فضلا عن جرح العشرات، وتخريب مبانٍ حكومية ومقار احزاب، وخسائر اخرى، منظورة وغير منظورة، وفي اجواء مثل هذه، تكون كل الاحتمالات واردة، لاسيما مع وجود نقمة ورفض لأركان الحكومية المحلية .. كانت الصعوبة تكمن في ضبط ايقاع مجريات الوقائع في القاعة، التي كان يجلس فيها اكثر من ١٥٠ شخصا، بدأت الاصوات تتعالى وكل يتحدث من مكانه، مع محاولات المحافظ وعدد من النواب، لضبط الايقاع، ولكن دون جدوى، المهم في هذا الاجواء، انبرى،أبو أكثم، طالبا الحديث، تقدم الى المنصة بخطوات متزنة، مطرق الرأس، حاملا بإحدى يديه بضعة اوراق مكتوبة .. بدأ حديثه هادئا مرحبا بالحاضرين، كنت اقرب الجالسين اليه، لذلك كنت مضطرا الى الاستدارة الى الخلف لكي أتمكن من رؤيته، لم يكن ابو اكثم يقرأ شيئا من تلك الاوراق، انما كان يرتجل ما يقول ارتجالا، والذي أعجبني فيه، امتلاكه لأدوات اللغة والخطابة، وكان يُطعّم كلامه بجمل وكلمات شعبيّة، جميلة، كان حديثه مباشرا، بعيدا عن “الحسچة”التي عُرف بها ابناء الناصرية ..
تحدث أبو أكثم بحرقة وألم ووجع وشجن كبير، كان قاسيا، الى اقصى درجات القسوة، وهو ينتقد الحكومة والساسة والاحزاب والنواب، واذا ما وصل الى اقصى درجات الانفعال، طوّح بـ”المايكروفون”بعيدا، وتطايرت الاوراق من بين يديه، ولكن، لم تتطاير المفردات من لسانه، فقد كان يعض على مفرداته بالنواجذ، فتخرج كلماته وكأنّها قطع من جسده المشحون بالغضب والالم ..وقبل ان ينهي كلامه، جمع اوراقه، وقال هذه مطالبنا ...
ما لفت انتباهي، هو ذلك الهدوء والاستماع والانصات لحديث أبي أكثم من قبل الدكتور نوري الدليمي، كان يصغي ويسجّل، ويهز برأسه ايجابا، مؤيدا لكل ما قاله ذلك الرجل الـ(ذي قاري) ..
طبعا بعد حديث أبي أكثم، ارتفعت مناسيب الغضب بين الحاضرين، فتحدث آخرون بالحرقة ذاتها، واذا ما انتهى الجميع من الحديث، طلب د.الدليمي منهم ان يسمحوا له بالحديث اليهم، فاستجابوا لطلبه، فراح يحدثهم، بهدوء، ومحبة، حدثهم عن قضايا كثيرة، حدثهم عن آلامهم وهموهم وشجونهم، حدثهم عن تقصير الحكومة بحقهم، حدثهم، عن غلاء دماء ابنائهم، وعن شجاعتهم التي اذهلت العالم، وعن تاريخهم الضارب في اعماق الكون، ادرك الحاضرون، ان الحديث لم يكن حديث مجاملة، او لاغراض انتخابية، انما كان حديثا صادقا، يخرج من القلب ليدخل الى القلب، كنت أتنقّل بين صفحات وجوه الجالسين الذين كانوا يصغون الى الحديث بتلذذ، فبدأت أتلمس تغييرا في تلك الصفحات، يشبه اشراقا بطيئا للشمس التي تبدأ بتبديد خيوط الظلام، خيطا، خيطا، حتى تغمر بأشعتها الكون كله ..كانت ملامح حالة من الرضا، بدأت تظهر فوق تلك الوجوه، وعندما انتهى الدليمي من حديثه المفعم بالمحبة، احاطه الشباب الحاضرون بمشاعر المحبة، عندما اجتمعوا حوله، ومنهم أبو اكثم، الذي تحدث بود، فيما كان الدليمي يقبّل ويصافح الجميع، والتقط بعضهم “سلفيات” معه، ودعاه آخرون الى الغداء، ثم غادر الجميع القاعة بوجوه، غير تلك التي دخلوا فيها اول مرة .. مناسبة حديثي عن أبي أكثم، جاءت بعد مشاهدتي لمقطع فيديو انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي، ويظهر فيه أبو أكثم وهو يتحدث، بحديثه الذي اشرنا اليه، فبدت الصورة مشوّشة لدى البعض،فأردت ان اسرد تفاصيل ما حدث، فقد كنت من الشاهدين ..
تحية لأبي أكثم الشجاع، الذي عبّر عن خلجات نفوس ابناء الناصرية، ومثل هذه التحية، لابي عمر نوري الدليمي، الذي سجل صدقا ومحبة في حديثه وسلوكه ..
وألف تحية لأهلنا في ذي قار وكل مدن العراق، وحفظ الله الجميع من كيد الكائدين.