الخبر الزائف والذاكرة الكاذبة

آراء 2019/11/02
...

محمد شريف أبو ميسم
 
يبدو أنّ توظيف الأخبار الزائفة بات أمرا مألوفا في عموم العالم الذي تهيمن عليه أدوات العولمة الثقافية، ففي دراسة أجراها أكاديميون في جامعة أوكسفورد البريطانية تبيّن أنّ الأخبار الزائفة على منصّة فيسبوك في أوروبا، تتفوّق بشكل كبير على الأخبار الاحترافية التي مصدرها وسائل إعلام موثوق بها. وتشير الدراسة الى ان تأثير محتوى الأخبار الكاذبة يظل لمدة أسبوع على الأقل حتى وان كانت العناوين مصحوبة بتحذير بشأن المضمون والدعوة للتأكد من مصادر الخبر أو احتمالات وجود خطأ في المحتوى. وغالبا ما تكون مثل هذه الأخبار أكثر جاذبية من الأخبار الحقيقية، جراء استخدامها لغة وعناوين عاطفيّة تسهّل مهمّة انتشارها، فيما يؤدي تكرارها ومناقلتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى زيادة الشعور بأن المعلومات الخاطئة صحيحة، اذ ان التكرار بوصفه أسلوبا سايكولوجيا في التأثير يستطيع أن يصنع ذاكرة جمعية كاذبة، وهو ما يطلق عليه “تأثير
 مانديلا”.
وتأثير مانديلا (هو مسمّى يراد به توصيف ظاهرة الذاكرة الكاذبة الجماعية أوجدته في العام 2010 “فيونا بروم” وهي استشاري خوارق)، في إشارة إلى ذكرى كاذبة تتعلق بموت زعيم جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا في الثمانينيات وهو في السجن جراء اصابته بمرض السل الذي انتشر في جنوب أفريقيا في ذلك الوقت، اذ بقي تاريخ وفاة مانديلا عالقا بالذاكرة الجمعية عند البسطاء من الجنوب افريقيين في العقد الثمانيني على الرغم من أن مانديلا مات في عام 2013، ويبدو ان متلازمة الذاكرة الكاذبة باتت جزءا مهما من بحوث علم النفس الاجتماعي التي تمولها الشركات التي تحكم العالم، جراء ارتباطها باضطراب ما بعد الصدمة التي تتعرّض لها المجتمعات الرعوية تمهيدا للقبول بالحلول الجاهزة التي تأتي بها سلطة رأس المال وهي تؤسس لنظام ليبرالية السوق. ويقال ان اضطرابات ما بعد الصدمة هي محاولة الكائن الحي للبقاء على قيد الحياة رغم حالة الصدمة إبّان التهديد على الحياة. ومن ثمّ، فإنّها تشكّل استجابة طبيعية وردة فعل مناسبة إزاء الحدث للخلاص من الآلام النفسية التي تسببها الصدمة، ومن هنا يكون القبول بالخبر الزائف نتيجة طبيعية لصناعة الذاكرة الكاذبة.
واعتمادا على ما جاء به عالم الاقتصاد الأميركي “ميلتون فريدمان” الذي وجد في تعرّض المجتمعات الرعوية الى صدمة التحول سبيلا الى النجاح في عملية الانتقال نحو ليبرالية السوق، إذ يتعرض المجتمع الى سلسلة من التداعيات التي تفضي بالوعي الجمعي الى تيه وعجز معرفي حيال ما يحيط به من فوضى، فيكون القبول بالحلول الجاهزة هو السبيل للخلاص من هذا التيه، ما يجعل مساحة الذاكرة الجمعية المصحوبة باضطرابات ما بعد الصدمة على استعداد تام للقبول بالخبر الزائف والمغالطات الجماعيّة المشابهة بهدف صناعة تاريخ جديد من خلال التأثيرات السمعية والبصرية لأدوات العولمة الثقافية التي تتولى مناقلة الرأي العام من جانب لآخر عبر تدفّقات الأخبار الزائفة فتصنع على المدى البعيد ذاكرة بديلة يستند إليها الوعي الجمعي في التعاطي مع المستقبل، حينها لن يكون للتصحيح دور في تعديل مسارات الذاكرة وهي تؤسس لمجتمع جديد على مقاسات سلطة رأس المال.