وضعتنا خارطة مقاليد الحكم الشمولية موضع التمسّك بنفسه، وثبات رأيه، وأحادية أنموذجه او رؤيته، وتصدير خطابه بوصفه الخطاب المقدّس الذي لا يمكن الاختلاف معه او التغاير عليه. بل ان اية حركة لأية فكرة او ممارسة ستبدو حركة اقرب الى العدائية التي سيتحول ازاءها ذلك الخطاب الى عدو كاسر يهدم ويقتل ويحرق بإيمان منه بأن ما يقدم عليه هو الحق،
على اعتبار ان السلطة التي تحت يديه والفكرة الشمولية التي انقاد لها هي انموذج الحق الكلي، الثابت الذي يقف بالضد من أيما آخر يختلف عنه، يعد ذلك الآخر مدنساً غير مرغوب فيه.
هذه الخارطة قسّمت الدولة الى قسمين لا ثالث لهما، وانعكس ذلك التقسيم على كل قطاعات التفكير والممارسات وبشكل عزز انموذجات من التقاليد والاعراف بما يمكن ان يكون ملحوظاً في جميع سلوكيات، بل ومنهاجيات الانسان نفسه على مستوى علاقاته بذاته من داخل ذاته، وعلى مستوى علاقاته بذاته مع الاخرين المتخارجين عنه:
أ – أبويّة السلطة/ القوة /الحكومة /الفكرة /الأدلجة.
ب – هامشيّة (تبعية) المجتمع /الضعف /الممارسة /الثقافة – المعرفة.
معنى ذلك أنّ بنية الدولة قائمة على انموذجين مختلفين. أحدهما يمثل المركز: ذلك القطب الأوحد، والآخر يمثل الهامش: ذلك التابع المتعدد وبأكثر تراتبية تكون الدولة عبارة عن:
1 - حاكم / أعلى
2 - شعب / أسفل
وسوف تجد صداها هذه التراتبيّة في قطاعات الحياة المختلفة. انها تضرب في نواقيس ونواميس الواقع لتكون حاضرة بكل معنى الحضور ومؤطرة لكل متن. ومن هذه الضديات:
1 - المعرفة /التعليم /التربية / مجرد تلقين من الاعلى الى الاسفل.
2 - تضخم الانا على حساب الآخر.
3 - شمولية السلطة.
4 - ماضوية الانسان أصلا لحاضره ومستقبله.
5 - التفكير بالحفظ واعتماد الذاكرة أصلاً للمعرفة والوجود بدلاً من اعتماد الحفظ بالتفكير. اي غياب التفكير الناقد.
6 - غرائزية/ انشائية في السلوكيات والاجراءات.
7 - ريعية الاقتصاد.
8 - أحادية الرؤية.
آنذاك يكون الوطن قد تشخصن بذات الحاكم، وأصبح الحاكم معادلاً موضوعياً وكلياً للوطن. مما يمكن ان يختزل هذا العمق / الوطن تحت عنوان ان يكون الحاكم:
أ- معادلاً للوطن
ب- معادلاً لتاريخ الوطن
وهذا سوف يؤدي الى ان الحاكم محمول على المعادلتين في آن واحد: معادلة الوجود المادي الذي تشخصن بمسمى الوطن، ومعادلة الوجود المعنوي (القيمي) الذي تشخصن بمسمى التاريخ الوطني. وهكذا يصبح قول الحاكم بتواز او تعال على قول الوطن. وسوف يدفعنا هذا المدار من الرؤية نحو:
1 - ان الاوطان تزول بزوال ذات الحكام وتبعث الى الوجود او الحضور بحضور الحكام.
2 - تخصيص العام بمسمى الحاكم. اي ان ما يقع من عام في الدولة يكون خاصاً بيد الحاكم.
3 - الموضعة السياسية هي موضعة عقائدية. وهذا ما سيؤثر على ان المتغير السياسي سيكون ثابتاً ذلك لكونه محمولاً في العقائد. مما تتفرغ الدولة من المصلحة الدنيوية والاقتصار على الثبات السلطوي. ولم يكن الشعار الدكتاتوري السابق: (اذا قال صدام قال العراق) الا ترجماناً واقعياً لتأصيل انموذج الفكرة اعلاه. فكرة ان يتعادل الحاكم موضوعياً وعقائدياً مع الوطن ضمن المعطى المادي من جهة، ومع التاريخ الوطني، ضمن المعطى القيمي من جهة ثانية. وبتفريغ منطقي لما ورد اعلاه سوف نتبيّن ان مثلث كينونة الدولة القائم على:
1 - الشعب
2 - البرلمان
3 - الحكومة / الحكم
قد انحسر ولازم كينونة الذات التي توافرت على الشعب بتكوينه الجماهيري وجعلته منضوياً تحت يدها لأنّها الاعلى في مدار التراتب مثلما توافرت على البرلمان، لأنها اوجدت ان تعاليها السبب الرئيس لكشف التشريعات واخراجها، وقول الذات المعادل لقول (الشعب/ البرلمان) في عنوان العراق هو إمكان مقدّس ومتراتب في التشريع وسن القوانين. وبذلك يختزل الحاكم قوة الجماهير وتشريعاتها في ملكاته الخاصة.
اذا كان القـول يحمل صفة القرار والسلطة والامتلاء بالحقيقة والحضور والوطن والوطنية، وهو ممتلئ من حيث معاطف التقديس التي يرتديها سياسياً ــ عقائدياً بالانموذج الابوي الكلي. كان العدل قد انضوى تحت تصرفاته، فما شذّ عن رأيه او اختلف عنه كأنما شذّ عن واحة العدل وسقط في نيران الخطيئة. وبهذا يكون الحاكم هو الخصم والقضاء في آن واحد.
من هنا بلغت مرحلة التسقيط اوجّها، فهو يقتل من اختلف معه ويعطي من ائتلف معه، لأن ناموس التكوين البشري أصله الاختلاف، كان عدد القتلى عبر تصفيات الجسد المباشرة وغير المباشرة، بمستوى عدد وتعداد الاوطان، ولم تكن المقابر الجماعية التي طفحت بخارطة وجغرافيا العراق إلّا ردّات فعل المضمون او مفهوم العدل والعدالة التي تأصلت بأنموذج الحاكم الشمولي. ان كل مقدار خطوة يمضيها الحاكم الشمولي تتعادل مع مقدار مقبرة جماعية. وبالضرورة واللازم سوف تكون ايام حكم الانظمة الشمولية مستطردة مع أعداد الايام الخاصة بالإبادات الجماعيَّة.
وأقسى من ذلك كله، وفي ضوء المعطيات أعلاه، وبالمقارنة بين ذاته من داخل ذاته وبين شعبه من خارج ذاته سوف يبرهن نفسه في حقل ادراك الحقيقة على انه:
الحاكم : يعلم
الشعب : يجهل
ومن هذا المعطى سوف يهمل اية معرفة يمكن ان تمس الناس، على فرض ان ديمومة بقاء صولجانه تبدأ من حيث ممكنات تجهيل الناس، وسوف يؤثر ذلك في انه القادر على كشف الاشياء عن طريق مضخمات الذات المنتفخة عنده، وبالوقت ذاته لا يستطيع ان يدرك المعرفة من غيره على فرض استبعادها عنه. هو يعلم وينغلق في علوميته على نفسه بأن المعرفة أكثر حين يجعل من الجهل مكمنه في الشعب. ويعلم أكثر حين يجعل من الجهل غاية ينبغي ان يدركها الشعب لدعم علوميته المنغلقة.
وإزاء ذلك يمكن القول ان التاريخ الذي سجل احداثنا انما هو تاريخ السلطة وحدها، ذلك المنظور الذي عاين منه (القائد الضرورة) شكل الاحداث وأسطرها فيه. تاريخ كل ما يمكن القول فيه انه تاريخ الدكتاتورية الرائي الذي كان جزءاً من الاحداث مثلما كان شاهدا عليها. كذلك لا يمكن عد تاريخ
الاوطان.