وسائل الانفصال الاجتماعي

آراء 2019/11/04
...

ساطع راجي
 
يحرص كلّ مسؤول عراقي كبير على ان تكون له صفحة في الفيسبوك ويجنّد لها مقاتلين أشاوس لإدارتها، وهؤلاء بدورهم يبدعون لاحقا بفتح صفحات “لمحبي” و”أنصار” المسؤول، فضلا عن صفحات بأسماء وهمية تؤيد وتنشر كلّ مايقوله المسؤول وتدافع عنه وتهاجم خصومه، وبقليل من المهارة يتابع هذه الصفحات ولأسباب مختلفة آلاف او عشرات الالاف من المواطنين في دولة الفيسبوك، جنود المسؤول ينقلون له ارقام المتابعين فيفرح، ولأنه مشغول او غير مهتم بالمواطنين العاديين فإنّه لايراجع نمط تفاعل المتابعين لصفحته ولا تعليقاتهم، واذا حدث ان لاحظ فإنّه لا يشغل نفسه بالرد ولا حتى بالتساؤل عن سبب الشتائم والسخرية التي يعلق بها المتابعون على اخباره التي يظن أنّها عظيمة ويعتقد أنّ الامر هو “حسد عيشة” او ان خصوما له وراء هذه التعليقات، كما يهمل كلّ المناشدات والمطالبات.
يتعامل المسؤول العراقي الكبير مع مواقع التواصل الاجتماعي بوصفها منابر يطلُّ منها على الناس ويسمح لهم من خلالها برؤيته وفقا للصيغة التي يشتهيها، ولأنّها منابر فإنّها لن تكون وسيلة للتفاعل المتبادل، المسؤول يتحدث والمواطن ينصت، لكن وسائل التواصل ليست كذلك وهي لاتخضع للعقل الجامد الذي يقسم الناس الى أشراف وعوام، وهو ما يحطّم حلم المسؤول الكبير بقسوة.
خلال عمر الحكومة الحالية، تشكّلت عشرات المجموعات المطلبيّة في وسائل التواصل من عاطلين وسكّان عشوائيات ومناطق مهملة وفقراء ومهنيين، وكانوا يقومون بـ “خفارات” فعليّة في صفحات كبار المسؤولين ينتظرونهم كلما نشروا خبرا فخما ليعبروا بآلاف التعليقات والهاشتاكات عن معاناتهم، واذ نعذر القائمين على ادارة الصفحات تجنّبهم نقل الكلام غير اللائق لمسؤوليهم الكبار فلا يوجد عذر لهم في ما يتعلق بتجاهلهم لشكاوى الناس كما لا عذر لأي مسؤول يتجاهل ظروف ومطالب الناس الذين يعلمونه يوميا بأحوالهم.
طريقة تعاطي كبار الساسة وزعماء الاحزاب مع المواطنين تؤكد دائما وجود حالة من الانفصال بين الطرفين، وصار الامعان في التمسّك بالانفصال عن الواقع والاعتقاد بجهل المواطنين خطرا حقيقيا، فالمسؤول الذي يظن ان مشكلة المواطن المحتج تحلّ بمنحة بسيطة لاتكفي المسؤول لساعات هو منفصل عن الواقع والزعيم الذي يظن ان المواطنين لا يعرفون قيامه بتعيين أقاربه في مناصب عليا وفي عز الأزمة إنّما يصرّ على الاعتقاد بجهل المواطن، وهذا التصرف يرد عليه المواطن بغضب وسخرية، انفصال المسؤول عن المواطنين هو شرارة العنف الاولى، واحداث تشرين 2019 هي انفجار آخر لمعضلة انقطاع الصلة بين السلطة والمواطنين واخماد كلّ انفجار ثم الاستمرار بمنهج الانفصال ينذر دائما بانفجار اكبر.
انفصال أي طبقة سياسية، في الحياة والتفكير، عن المواطنين هو تمهيد للعنف في اقسى صوره، السياسي المعاصر هو ليس حاكما يأمر فيطاع، ولاحكيما يتحدث فتصغي الناس له، وليس أبا للمواطنين بل هو عندما يتسلّم المسؤولية يكون موظفا ينفذ مايريده منه اصحاب الشأن (المواطنون) حتى لو احتال عليهم ولم يتسلّم المسؤولية بشكل مباشر وتركها لحواشيه واتباعه.