إشكاليَّة الدولة الوطنيَّة في التظاهرات

آراء 2019/11/04
...

علي حسن الفوّاز
 
مايحدث في العراق يستدعي وعيا جديدا فاعلا، ليس لتوصيف الفعل الاحتجاجي والتظاهري، بل للكشف عن خطورة التحولات والمعطيات التي تحدث، في سياق تعرية دوائر الخوف، وفي تعريف الشجاعة الثقافية، ثقافة الشعار والاحتجاج والمطالبة بالحقوق، واثارة الاسئلة التي تخصّ موضوعات اشكالية كـ “الدولة المدنيّة” و” الديمقراطية” النظام السياسي” “الهوية” و“الامة العراقيّة” وغيرها. 
وهي لا شك تحمل معها مرجعيات قد تعين الباحث في علم الاجتماع، والأنسنة الى توصيف “جيل التظاهر” و “جيل المجتمع الجديد” إذ سيكون هذا التوصيف دالا على جملة من التحولات الكبرى، التي تُعنى بالمفاهيم والافكار، مثلما تُعطى بالأطر والسياقات الحاكمة.. جيل التظاهر ليس هو جيل الهامش كما يصفه البعض، بقدر ماهو جيل التحوّل، جيل التغيير، وجيل البحث عن الذات، إذ أسهم النظام السياسي ومنذ ستة عشر عاما بتغييب الذات لصالح الجماعة، وهي عملية استلابيّة اسهمت الى حدٍّ كبيرٍ في وضع الذات/ الفرد العراقي أمام تشوّهات كبيرة، واعطاب معقدة.
فالجماعة لم تستطع أن تؤسس أنموذجها للدولة، ولا للمدينة، ولا للمؤسسة أو الحزب، أو حتى للبنية الفاعلة، فالدولة ظلت غارقة في صراعاتها وفي فشلها الهيكلي والوظيفي والتداولي، والمدينة ظلت فقيرة وشاحبة ولم تتخلص من عقدة “القرية” بطابعها التريّفي والعصابي، فضلا عن كونها ظلت مدينة غير صيانيّة، تعيش مظاهر الاستلاب الجماعوي والخدماتي والتنظيمي والتنموي، والمؤسسة ظلت جهازا تابعا للجماعة، وغارقا في مظاهر غرائبية للفساد والترهّل والرثاثة، والحزب، أي حزب ديني أو علماني ظل بلا هوية واضحة، وغير فاعل في تعزيز مسار الدولة والمؤسسة، قابل للانشطار مع انشطار المصالح، وأحسب أن العدد الضخم من الاحزاب التي شاركت في الانتخابات النيابية للعام الماضي تعكس مدى التسطّح والتعويم الذي تتسم به اغلب تلك الاحزاب..
 
الحالة العراقيّة والرؤية الخلدونيّة
قد يبدو السؤال مثيرا للجدل بشأن التوصيف، وحول مقاربة هذه الحالة مع الرؤية الخلدونيّة القائمة على فكرة العصاب، فهل أن دولتنا هي عصابيّة حقا؟ وهل أنّ فشلها وعجزها يعود الى تغوّل هذا العصاب بنيويا، 
ووظيفيا؟
 لقد وضع ابن خلدون تفسيره على أساس حاجة الدولة في القرن الرابع عشر لأنموذج الدولة التي تقاوم الغزو، وعلى اساس تكريس بنيتها العصابية والطائفية والقبلية، وبما يجعل فكرة الخضوع لها أمرا موجبا، وضروريا، لأنّها مصدر الحماية والصيانة والمقدّس، لكن هذا الأنموذج الخلدوني فشل في حماية “الأمة” وفي حماية “المدينة” لأنه كرّس من خلالها أنموذجا لهيمنة الهوية الكبرى، والجماعة الكبرى، ولكلِّ مايتبعها من توصيفات للمؤسسة والمدرسة والمدينة وغيرها، إذ بدت المدينة أكثر تحصّنا لايديولوجيا الجماعة، وبدت المؤسسة أكثر تمثيلا لوظائف الجماعة، وهو ما أسهم الى حدٍّ كبيرٍ وطوال هذه السنوات الى ايجاد فراغات بدأت تتضخّم وتتسع خارج ماهو مُتخيّل في المدينة والمؤسسة والحزب، والتي كانت التظاهرات الاخيرة تعبيرا عنها، وعن أزمة “اللا جماعة” الساكنة خارج لعبة التوصيف 
والتخيّل.
فشل الأنموذج الخلدوني تكرر للاسف مع أنموذج الدولة “البرلمانية” عبر تعطيل دورها في انجاح مشروع الدولة الديمقراطية، وفي تأهيل المدينة والمؤسسة والحزب، لكي تكون من المصادر المهمة في التخلّص من ذاكرة العصاب الخلدوني، ولتنمية ماهو انساني فيها، عبر تحريك عجلة التنمية والمشاركة، وعبر تجديد الخطاب، وتفعيل مضمونه، فضلا عن تجديد شكله وادائه في مخاطبة التشكّلات الجديدة، والتي لم تنخرط في تاريخ الجماعة، لها حساسيتها ولها اهتماماتها، وطموحاتها، وأنّ مابدا واضحا في هوية هذه التشكلات، وعن تصاعد دورها في الطابع التظاهري والاحتجاجي، وحتى العنفي أحيانا، والذي كان تعبيرا عن مواجهة الاهمال والتهميش والعزل والبطالة، ولكل المركزيات التي فرضت نفسها على الدولة والمدينة والمؤسسة، والتي كانت مركزيات غير فاعلة وغير حقيقية، إذ اغرقت الدولة والمدينة والمؤسسة بالفساد والفشل والعجز، وهو مازاد من معاناة هذه التشكلات العاطلة عن العمل، والمُهمّشة اجتماعيا وثقافيا ومؤسساتيا.
إنّ الحديث عن اصلاحات ومعالجات ينبغي أن تقترن بعملية تفكيك حقيقي للبنية العصابية، لصالح بنيات مدنية وشبكات اقتصادية تتجاوز فيها عقدة الطائفية، وعقدة الفشل في انتاج الدولة الحديثة والمدينة الحديثة والمؤسسة الفاعلة، وايجاد سرديات أكثر تعبيرا عن حيوية هذا التحوّل والتغيير، عبر تعديل الدستور، واعادة النظر بهيكلة الدولة، وتنشيط القطاعات المدينية والخاصة، وعبر سياسات اقتصادية وثقافية فاعلة تؤمن بالتخطيط والعلم والمعرفة، وليس بالعشوائيات التي استغرقت الواقع العراقي..
لقد نجحت الجماعة في مواجهة الارهاب والتكفير الداعشي، وهي مسؤولية كبيرة على مستوى الالتزام بالفتوى الجهادية، أو على مستوى ايجاد “عسكرة” وطنية تملك الاهلية والقوة لمواجهة التكفير المدعوم بالتاريخ، وبالجماعات الارهابية، وبالعصابيات المناطقية، وهذا ما كان حافزا لم يُستثمر بعمق في تحويل الفكرة الجهادية الى سياسات عمل وبرامج للنهوض بمشروع الدولة، وبناء المدينة/ العمران الأنموذجي والمؤسسة الحقيقية في توصيفها وفي وظيفتها.
إن مايجري من تظاهرات واسعة، ومن مطالب تعكس في جوهرها أزمة الدولة والمؤسسة، يفتح الأفق أمام معطيات جديدة ينبغي أن تؤخذ بالحسبان، على مستوى صياغة خطاب اعلامي جديد وفعّال، وتبني سياسات ستراتيجية تخصّ العمل على انشاء مراكز للشباب، والى دعم البرامج التي تعنى بالصناعة الثقافية، والدراما والسينما، وايجاد اطار تخطيطي للمؤسسات التعليمية، ولفتح مكتبات عامة ومراكز بحوث علمية وثقافية، فضلا عن المبادر الى الاعلان عن جوائز كبرى لتشجيع العمل العلمي والثقافي والفكري، لاسيما بين قطاعات الشباب بوصفهم القوة الفاعلة في التظاهر وفي الحراك 
الاجتماعي..