رواية الحب والكراهية والمنافي

ثقافة 2019/11/05
...

محمد علوان جبر
 

من المنفى الكندي الى « بدرة « المدينة الحدودية أو المنفى الذي يتطلب الوصول اليه قطع طريق صحراوي بلا معالم ولا آثار ، عدا بعض الوديان وثمة سلاسل جبلية وأراض تغمرها المياه شتاءً تتحول بفعل السيول  الى شلالات تكتسح كل شيء امامها، يقودنا الروائي عبد الخالق الركابي في روايته « خانة الشواذي «  الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ  2019  عبر أدق تفاصيل اللون والانفعالات الانسانية التي تشير اليها» السيول « التي تجرف معها مصائر ركاب سيارة تتحول الى ثيمة رئيسة للرواية واللوحة التي رسمها «طه طلال» المقيم في منفاه الكندي  ، قبل أن تسرق من مركز الفنون بعد دخول الدبابات الامريكية الى بغداد  تفاصيل  ممتلئة باللون ـ 

حيث نجد الراوي الاستاذ « نزار « زميل « طه « في كلية الفنون ، يعمل على ترميم اللوحات التي نهبت وعادت بعد رحلة طويلة متنقلة من مدينة الى اخرى تحت  ظروف جوية وطرق خزن سيئة أدت الى تلف اجزاء كبيرة منها ، لكنه ينذر نفسه على اعادة لوحة صديقه «طه « الى سابق عهدها مستخدما خبرته في مجال
 ترميم اللوحات . 
وكما هومعروف عن عبد الخالق الركابي في أغلب رواياته وهو يشيد بدقة معماري ومهندس خبير ، أدق التفاصيل المؤثثة بما يجعلها تشبه الاكوان المتناسقة  ،  وقد عمل على أن تكون ثيمة « خانة الشواذي «  تدور على لسان ابطال كثر متنقلا عبر حقب زمنية ، حيث  تبدأ الرواية عبر رسائل أو مدونات يختصر فيها حياة مدينة ، وفي ذات المغزى والسياق نفهم انه يرسل حكايات  تتعلق بأبيه «طلال منذر» واضعا سراختفائه لغزا  ،  طالبا من صديقه الراوي الذي يتحول الى منضد ومحرر للرسائل مستغلا قدرته في الكتابة السردية وهو يعيد صياغة  ما يصله عبر الرسائل اليومية التي يتلقاها من صديقه  تباعا ، فمنذ المشهد الاستهلالي للرواية حيث مراسيم دفن « طه طلال « في مقبرة كندية ، تبدأ علامة الرسائل المخزونة في الدرج الذي يحوي رزمها ، تبدأ  رقعة شطرنج ـ
 ركابية ـ تتشابك فيها علاقات اجتماعية وانسانية للاصدقاء الخمسة ومصائرهم المشتركة التي فرضتها أمكنة ـ  بدرة ـ  الكوت ـ  بغداد ـ  كندا ...  وبالعلاقات الانسانية وصداقات .. طلال منذر ـ  المعلم المثقف والموسيقار وسائق القجمة ناظم ومن ثم ـ  الملاك الذي مر كالسهم في سماء بدرة واحدث بفعل هذا المرور طوفانا لم ينج منه أحد
 من ركاب ـ
 سيارة القجمة ـ   وأعني المنفية « ملاك عيسى « ونادر بشير وصديقه فيصل الاحمر وأكرم افندي والمهاجرة الارمينة ـ  كريستينا ـ  زوجة بشير الذي عاد بها بعد أن امضى سنوات وهو يخوض في طين وغرين الحروب التي دفع لها قسرا ــ  وهذا المشهد يتكرر في اغلب روايات عبد الخالق الركابي وخاصة في ثلاثية من يفتح باب الطلسم والراووق  وقبل أن يحلق الباشق ــ  واخيرا نجد ثمة تفاصيل تشير الى تجنيد الاتراك لابناء المناطق الريفية ودفعهم بعيدا ، وكذلك ثمة الكثير من المشتركات في اغلب روايات الركابي التي تتمثل باللوحات ، والموسيقى والقاسم المشترك الذي يميز  لوحات اغلفة أغلب رواياته،  في خانة الشواذي ،  يختار لوحة الغلاف للفنان العراقي « محمد مهر الدين «  في اشارة ضمنية الى ماحصل لاشهر اللوحات في مركز الفنون والتي كان مصيرها السلب ومن ثم الضياع او التشويه ، وظف الركابي احداث الرواية بطريقة تشبه لعبة الشطرنج المتقنة التي لاتقبل أي حركة مخالفة للقواعد ، حيث يكمل كل فصل حدثا يقودنا ببطء نحو النهاية التي نقترب منها ، التي يكشفها اخيرا المحامي الشاب الذي يتوكل في الدفاع عن المعتقلين السياسيين وغيرهم مجانا ، لنجده في الفصول الاخيرة وقد شاخ وهو يكشف عن اسرارالملف الذي يتعلق بسر اختفاء السيارة ومن فيها لنفهم  النهايات المفجعة لكل من ـ 
فيصل الاحمر ـ
 نهاية مفجعة مثل ابيه وكذلك يقضي ـ نادرـ  غرقا بعد أن ربطه فيصل بالقيود الحديدية الى مقعد في خانة الشواذي .. لا ينجو الا طاهر الذي يعتقل وينتهي في الموقف بعد الاضراب الكبير في سجن بغداد المركزي ، أما بالنسبة للعنوان ، فقد كنت شبه معترض عليه ، كونه مباشرا وشعبيا جدا ،  لكن لمن يقرأ الرواية سيدرك المصائر الغامضة التي يصل اليها ركاب السيارة وبالتحديد في المقاعد الخلفية التي كانت تسمى بالشعبية « خانة الشواذي « كونهم يتقافزون وهم مكبلون بقيود حديدية في المقاعد الخلفية للسيارة التي تخترق الصحراء عبر طريق غير معبد ، وهم يمضون الى مصائرهم حيث « المنفى»  بدرة التي كانت مكانا تنفي فيه الحكومة من يعارضها ، فنجدهم تائهون في المدينة لا يعرفون عن رحلتهم العميقة وسط الصحراء الا تلك المقاعد الضيقة التي يحشرون فيها وهم مقيدون بالسلاسل ... واخيرا قبل أن يحدثنا الراوي عن تفاصيل اللوحة وعن مركزها الذي يتمثل بسيارة باص خشبية وهي غارقة الى منتصفها في الماء ،  حيث تظهر جثة منتفخة لشخص وقد قيدت إحدى ذراعيه  الى مقاعد السيارة وثمة شخص مضطجع على سطح السيارة نفسها ،  يبدو كذلك اشبه بجثة ميت ، وأما بقية مساحة اللوحة فهي مكرسة لاشخاص مشوهين بعضهم بلا رؤوس مقطوعي او بسيقان مبتورة  ..  هذه هي اللوحة التي رسمها « طه « وهو من كتب سيرتها ولم يسعفه الحظ لرؤية اللوحة وهي تعرض في كاليري اذ يموت في منفاه الكندي وحيدا .
تبقى الثيمة والتفاصيل الكامنة في الخطوط العامة لرواية « خانة الشواذي «  تمتلك عمقاً يؤهلها لان تكون اضافة مهمة الى المسيرة السردية العراقية والعربية .