ميدان التحرير.. من فضاءٍ باردٍ إلى فضاءٍ تملكه الجماعات السياسية

ثقافة شعبية 2019/11/12
...

يقدم علي عبد الرؤوف في كتابه (شعب وميدان ومدينة: العمران والثورة والمجتمع) القصة الإنسانية والمعمارية والعمرانية لميدان التحرير، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ويستشرف منها فهما جديدا لمدينة القاهرة، وتفسيرا مغايرا لعلاقة المجتمع أو الشعب المصري، بالميدان، ملقيا الضوء على قدرة هذا الميدان المكانية في استيعاب المحتجين ، وتحوله من فضاء رسمي بارد إلى فضاء شعبي تملكه جماعات الاحتجاج السياسي.
يرى عبد الرؤوف في فصل ( ثورة ميدان: الميلاد الجديد للفضاء العام)، انطلاقًا الاحتجاجات من تدوينه في  صفحة على موقع فيسبوك وتوهج شرارة ثورة 25 يناير في مصر، حيث تجسدت في الفضاءات الافتراضية وفي الشوارع على حد سواء، فقد عدت  وسائل التواصل الاجتماعي بمنزلة ساحة للتحرير، بل كانت تعمل أيضا بوصفها ساحة تتنافس فيها القوى المختلفة على جذب عقول الشباب. ويرى المؤلف أنها معركة على أفكار مهمة، كطبيعة الحرية، ومكان الجيل الصاعد في النظام السياسي. يقدم المؤلف رؤى ثاقبة لفهم نوعية الكفاح الجديد المستمر بين الشعب والسلطة في العصر الرقمي، وفي المكان أو الفضاء العام. كما يحلل علاقة المجتمع بالفضاء ، ويختبر دور التقنيات الرقمية وآليات التواصل الاجتماعي في توليد زخم جديد نحو إعادة امتلاك الفضاءات العامة في المدينة.
الباحث يرى ان الميدان يعد  الروح والفضاء العام للمدن الحية وهو  القيمة الأكبر للفضاء الحضري في سياق نسيج المدينة، ويوضح علاقة هذا المكون الجوهري بقيم الانتماء وحرية التعبير الجماعي واثراء روح المجتمع، ويفسر التعريفات المتعلقة بالفضاءات العامة، ثم يتتبعها تاريخيا في سياق نمو فكرة الفضاء منذ الحضارة الإغريقية. كما يقدم تحليلا لما للفضاءات العمومية  من أبعاد مختلفة، ويبين  أن ميدان التحرير لم يكن مصمما ليكون ممثلا كـ فضاء عام في حياة الشعب المصري، خصوصا طبقتيه المتوسطة والبسيطة، من خلال  مراجعة تاريخية  هذا الميدان، ولا سيما تاريخه في التعبير النضالي. 
يختم عبد الرؤوف الكتاب بالفصل الأخير، (تحولات الصورة البصرية والذهنية لميدان التحرير من المقدس الى المدنس) بالتعامل مع فرضية جوهرية قوامها أن التحول التدريجي في الصورة الذهنية والبصرية والوجدانية لميدان التحرير من فراغ مقدس إلى فراغ مدنس، هو مشروع متعمد بهدف إهدار الطاقة الثورية وتشتيتها، وإجهاض دور الفضاء العام في مصر. كما يوضح أن تدمير القيمة المعنوية والرمزية، بل والمادية، لميدان التحرير، وبصورة تدريجية حتى اللحظة المعاصرة، جرى بأعلى درجات الإدراك من المجلس العسكري والنظام الحاكم، هذه الحالة الإدراكية التي استوعبت تماما أن إسقاط قيمة ميدان التحرير من الوعي الجمعي للشعب المصري، وما صاحب ذلك من تشويه كامل لصورته الذهنية واليوتوبية، هما الفعل الأقدر على سحق المد الثوري. يحلل المؤلف أيضا جهد المجلس العسكري والنظام الحاكم في تجنيد مجموعة من الكتاب والمفكرين لإجراء تغيير مرحلي لوعي المصريين الثائرين وعلاقتهم بفضاء الميدان، وهذا جهد تطور من النداء بعدم جدوى الاستمرار في التظاهر والاعتصام في ميدان التحرير، بدعوى أن المجلس العسكري تولى زمام القيادة ويجدر بالشباب الثوري العودة إلى بيوتهم ومدارسهم وجامعاتهم لأن الثورة أصبحت في أيد أمينة، إلى اتهام من في التحرير بأنهم مأجورون أو مضللون.
ذلك، يحاول المؤلف أن يقدم فهما لتاريخ البنية الفضائية والعمرانية لميدان التحرير، من خلال سياق القاهرة وبنيتها العمرانية وتحولاتها، ومن خلال تحليل السياق العمراني والمعماري للميدان، ثم ينطلق إلى صوغ مساهمة وإدراك أوسع في فهم التاريخ النضالي لفضاء ميدان التحرير، إذ يقدم تفسيرا للعوامل التي حولت الميدان إلى الفضاء الأكثر استقطابا واستقبالا لمحاولات الشعب المصري في الثورة والاحتجاج والاعتراض.ص
المؤلف معماري ومصمم عمراني وناقد وأكاديمي، يشغل منصب منسق التطوير وبناء القدرات والبحث والتدريب بإدارة التخطيط العمراني تشمل اهتماماته البحثية عمارة مدن المعرفة. صدر له (النقد المعماري ودوره في تطوير العمران المعاصر: الحالة المصرية والعربية) وكتاب (من مكة إلى لاس فيجاس: أطروحات في العمارة والقداسة) و(مدن العرب في رواياتهم) و(مقالات نقدية في العمارة المصرية) و(مدونات معمارية عمرانية) وكتاب  (التنمية العمرانية المرتكزة على المعرفة في الشرق الأوسط) .