نصير فليح
كما ظهر ديكارت ذات يوم ليضع كل ما قبله على طاولة التساؤل والشك، وكما ظهر كانْت ليفعل شيئاً مشابهًا ولكن من زاوية مختلفة، بأن يضع حدوداً للعقل وتمييزاً بين نطاقاته ليمسي ما هو خارج ذلك «ميتافيزيقيا»، أو كما ظهر هيغل، ليراجع كل ما قبله وأيضاً من زاوية مختلفة تعيد توصيف حركة الفكر باعتبارها حركة جدلية في التناقضات المتفاعلة
كذلك يظهر ألان باديو Alain Badiou في عصرنا ليراجع الاتجاهات الرئيسة في الفلسفة والفكر، واصفاً تلك التي هيمنت على نطاق واسع من الفكر العالمي، لا سيما ما بعد الحرب العالمية الثانية (كالاتجاهات ما بعد الحداثية والتأويلية والتفكيكية وما بعد البنيوية) بانها
“سفسطة”!
القارئ العربي المعني بالفكر والفلسفة يعرف أهمية هذه الاتجاهات التي يسحب باديو البساط من تحتها، فهي الاتجاهات الرئيسة في لوحة الفكر العالمي المعاصر، ولهذا فإن باديو، من هذا المنظور، ليس أقلّ من “صدمة فلسفية”، نقطة تحول جذرية.
سؤال الحقيقة:
كلنا يهمنا بدرجة أو أخرى - عندما نفكر فلسفياً بطبيعة العالم أو موضوع «الحقيقة» - ما اذا كانت هناك نقاط استقرار نهائية يمكن الركون اليها. فأن نتخيل العالم بلا نقاط صلبة تشدّ لُحمته، يجعل من رؤيتنا للمعرفة والحقيقة وأسئلة الكينونة والوجود، نسبية، هلامية، تتشكل وتعيد التشكل، لا تستقر على مراس نهائية أو مراس موثوقة.
ذكرنا تواً تعبير «مراس نهائية» و «مراس موثوقة»، والتمييز بين الاثنين مهم وضروري في هذا السياق.
«المراسي النهائية» نفسها يمكن أن تكون درجات. فإحالة طبيعة الوجود والعالم الى نقطة نهائية واحدة، كما في الأديان او بعض الفلسفات الاحادية Monism، تختلف عن احالتها الى درجات أقلّ من النهائية، كأن تكون خلفية الصورة النهائية عدة عناصر لا واحداً.
أما ما نسميه هنا “المراسي الموثوقة”، فتعتبر أكثر مرونة وأقلّ يقينية وأكثر تعدداً. وفرقٌ مهم بين ما هو “موثوق” وما هو “يقيني”. وهنا لا تتحول الحقيقة الى “نسبية هلامية” شاملة، لأن الموثوقية تتضمن في داخل هذا الهلام ما يمكن تسميته “نوى متماسكة” او لنقل “مركّزة” و”عالية الكثافة”، يمكن الخروج استناداً اليها بمعرفة موثوقة عن الانسان والعالم المحيط به.
النسبية المعرفيَّة:
الاتجاهات الفكرية والفلسفية الرئيسة المعاصرة مالت بشكل كبير، لا سيما مع ما بعد البنيوية، الى النسبية المعرفية. فنظرة سريعة الى التفكيكية والتأويلية يمكن ان توضح ذلك، بنزوع الأولى الى القول بأنه في نظام العلامات الرمزي الذي يحيط بنا كبشر نحيا في هذا المجتمع والعالم، فإن هذه العلامات والرموز - لا سيما اللغة التي تعتبر ابرزها واكثرها اهمية - لا يمكن أن تقود او تؤدي الى مدلولات محددة نهائية. فالمدلولات نفسها تمسي دوالاً لمدلولات أخرى، ذلك أن المدول نفسه يحمل في ذاته «أثر» trace مدلول آخر، مما يجعله بدوره دالاً. وهو ما عُرف في التفكيكية Deconstruction بالاختلاف المرجأ différance.
وهذا يصح أيضاً، من زاوية أخرى، على الاتجاهات التأويلية التي ركزت على تحولات المعنى في أيّ نص (والنص هنا بالمعنى العام لا يشتمل على الكتابة أو الكلام فقط)، حسب التأويلات المختلفة التي يتشكل بها. فالعلاقة بين النص، والمؤلف، والمتلقي، مراسٍ متعددة تعيد تشكيل المعنى مع اختلاف الزوايا والسياقات.
ما نقوله هنا، بالأساس، توضيح للخطوط العامة للموضوع. فقد جرى ولا يزال جدل كبير حول كون هذه الاتجاهات تؤدي في نهاية المطاف الى “العدمية” أو تحثّ عليها. فما دام كل معنى لا يستقر أبداً في نقاط نهائية، فلن يتبقى أي معنى محدد في نهاية المطاف يمكن الركون اليه. ولكن هذا الاتهام من جانب مناهضي النسبية المعرفية، ظل ينكره اصحاب الاتجاهات التأويلية والتفكيكية، زاعمين أنّ “العدمية” التي يُتهمون بها تشبه حالة من “فقدان الثقة التام” مما يؤدي الى تلاشي أي موثوقية في نهاية المطاف، وهم بعيدون عن ذلك. لأنهم يتوجهون نحو جعل النص أقلّ تصلباً وقطعية، وجعل علاقة النص بالمعنى، او علاقة الدال بالمدلول، اكثر مرونة، دون أن تسقط في “ميوعة تامة”.
صدمة فلسفيَّة
ظهور فلسفة مثل فلسفة ألان باديو وبروزها في القرن الحالي على أرضية جدالية من هذا النوع، يبين مدى اهميتها وجذريتها. فهو يقول لنا ان هذه الاتجاهات ما بعد البنيوية هي نوع من «سفسطة» - بالمعنى الذي استخدمه افلاطون لنقد سفسطائيي زمنه - وانها نجمت عن نزوع فكري عام له جذوره السياسية والاجتماعية، وقد ارتبط هذا النزوع بعدة اسباب، من أبرزها، في الجانب الاجتماعي والسياسي، الجو الفكري العام الذي ساد العالم في القرن العشرين، لا سيما مع كوارثه الكبرى في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبالتالي الشعور الكبير بالخيبة واللاجدوى المقترن بفشل وعود التكنولوجيا والحداثة والتنوير والعقل في الاختبار الفعلي. وعلاقة فلسفة باديو بفلسفة افلاطون علاقة وثيقة - كما بينا في كتابنا عنه – الى درجة انه يقول عن فلسفته انها نوع من الافلاطونية المعاصرة.
منعطف المعرفة الكبير:
وهناك سبب معرفي رئيس يحدده باديو أيضاً، وهو عجر الفلسفة إبّان ذلك عن مواكبة تطورات عصرها العلمية. فدور الفلسفة تراجعَ كثيراً - بما في ذلك مساهمتها في موضوع «الحقيقة» نفسه – نتيجة القصور الكبير في تمثل تطورات عصرها المعرفية. وأبرز التقدمات العلمية التي يرى باديو ان الفسفة أغفلتها وعجزت عن مواكبتها هي «نظرية المجموعات» set theory في الرياضيات. فهو يرى في هذه النظرية حدثاً معرفياً بشرياً جللاً انطلق في القرن التاسع عشر ولا يزال يتطور الى يومنا.
ذلك ان ابتكار نظرية المجموعات في الرياضيات أتاح لنا، لأول مرة في تاريخ الفكر البشري، التعامل مع إشكاليات معرفية مستعصية، مثل مفاهيم “العدم” او “اللانهائية”. حيث حولتها نظرية المجموعات من نقاط انسداد ومآزق معرفية الى نقاط يمكن التعامل معها رياضياً ومعرفياً حتى لو كانت تقع خارج نطاق قدرة البشر على
التصور.
ولكن، من جهة أخرى، كما يرى باديو، فإن دور الفلسفة لم يعد توليد الحقائق، كما كان يُظنُّ قديماً، بل انها أمست “راعية” لها لا غير. بمعنى أن المعطيات التي تتوفر لها من مجالات الحياة البشرية القادرة على توليد معطيات الحقائق، كالعلم، الفن، العاطفة، السياسة، تقدم للفلسفة مادتها، ودور الفلسفة هو كشف هذه المعطيات ووضعها في صيغ “حقائق”. وهذه الحقائق صالحة ومطلقة وثابتة في كل زمان ومكان، رغم اختلاف صيغ واشكال التعبير عنها مع تجدد العصور والأزمنة وتطور المعارف. ولعل بوسعنا من خلال ما تقدم تكوين فكرة ولو أولية عن مدى الجذرية التي تمثلها فلسفة باديو في فكر عالمنا المعاصر.