كثيرا ما يصادفنا نقد أدبي يكون فيه السردهوالمبتغى والوسيلة، وكأن هذا النقد مخلص في انقطاعه إلى السرد، ووفيٌّ لكل متعلقاته من نظريات ومناهج وأساليب ومصطلحات وتاريخ أدبي، غير أن ذلك قد تُنتفى قيمة ما يحمله من إخلاص ووفاء حين يمارسه ناقد هو أمّا كاتب يعنيه التفكر والتدبر أو باحث يهمه التنقيب والجمع أو مؤرخ يؤرقه الإحصاء والفهرسة والتبويب أو محلل مهمته العرض والتوصيف أو قارئ له ذائقته التي بها يعبر عن انطباعاته بحرية، تُقيِّدها بعض المرجعيات القرائية المحددة.
والسؤال : هل أن الناقد كائن خارق يتداعى وصفه بأنه قارئ أو كاتب أو باحث أو مؤرخ أو محلل ؟ أو هو هؤلاء
جميعا ادماجا واختزالا في صورة مضغوطة باتقان إلى درجة لا تبين معها كينونة محددة لأي واحد من هذه الأوصاف ؟
ليس غريبا أن يكون الناقد كائنا سوبرمانيا إذا ما جمع كل هذه الصفات والمهن باحتراف وتمكن منها بدراية وعلمية. وليس في هذا فذلكة توصيفية أو ترسيم انبهاري أو ترويج تعبيري؛ بل هو لب التخصص والتعددية الذاتية التي ينبغي أن تبنىعليها كينونة من نسميه ( الناقد ).
ومن دون ذلك قد لا يتحقق وجود ناقد ينتج نقداً لنص منقود ضمن خطاطة الاشتغال النقدي التي مارسها كبار النقاد العرب المعروفين في العصر الحديث حتى أضافوا إلى الاشتغال النقدي بصمات مهمة، فضلاًعمّا قدموه للاشتغال الإبداعي من مديات من التطور، دافعين بذلك عجلة الأدب قدما نحو الأمام.
وعلى الرغم من أنهم لم ينشغلوا كثيرا بتحديد فرضيات التمكن النقدي لكنهم كانوا متقنين للممارسة النقديةبدقة وعلمية، خذْ مثلا لا حصرا العقاد وطه حسين وادونيس ونازك الملائكة، وغيرهم العشرات من النقاد العرب المحدثين والمعاصرين.
وفي مقابل هذا التأسيس المرحلي تأتي مراحل من التبلورات النقدية التي تجسَّدت في أحاد من النقاد العرب ـ ولا أقول عشرات ـ من الذين اتصفوا بتلك الدافعية التي عُرف بها النقاد الرواد، حتى بنوا عليها كينوناتهم النقدية التي أعانت بدورها كينونات إبداعية أخرى في أن تمتشق طريق التجديد والتطوير، كما نجد ذلك في شخصيات نقدية مثل د. جابر عصفور وفاضل ثامر ود.عبد السلام المسدي ومحمد بنيس ومحمد مفتاح ود.عبد الملك مرتاض ود.صلاح فضل ود.خالدة سعيد ود.سيزا قاسم، فيا ترى ما السبب الذي فقد فيه الناقد العربي سماته الناقدية الحقة، حتى صارت
عزيزة لا يؤتيها سوى من حظي بنصيب وافر من التكون المعرفي والبناء
الأدواتي ؟
لعل السبب يتجلى في عدم تحقق شرط الادماج بين الكينونات الكتابية والقرائية، فلا تنصهرمع بعضها بعضاً داخل كيان الناقد الأدبي، أمّا بسبب شطح كينونة هنا أو انشقاق أخرى هناك أو تمرد واحدة منها على الأخريات، فلا تقبل الانصهار بها مشتطة عن المجموع وقد تتعالى كينونة على حساب غيرها فتبرز واضحة طاغية على الكيانات الأخرى التي أرادت أن تتفاعل معها، لكن غرورها منعها من الدخول في ذلك التفاعل أو لعله القصور الأدواتي الذي لم تستطع معه تلك الكينونة ـ التي تبغي أن تكون ناقدة ـ التفاعل مع تلك الكيانات باندماج هوياتي وتخصصي، فلا يتاح لها عندذاك التدشين لشروط الناقدية ومتطلباتها المعرفية وسماتها التعددية، مثلما لن يتاح لها تطبيق التزاماتها إزاء المتلقين
القراء.
وهكذا تموت كينونة النقد لتحيا بدلها كينونات أخر، كأن تكون كينونة الباحث كما في منجز د.عبد المنعم مجاهد وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي وغيرهم.
وقد تكون كينونة الكاتب هي البارزة كما في منجز عبد الكبير الخطيبي وعبد العزيز المقالح وغالي شكري وشكري عياد. وقد تكون كينونة المؤرخ هي الطاغية كما في أعمال الأساتذة عبد الاله أحمد ومحمد غنيمي هلال وداود
سلوم.
وقد تكون كينونة المحلل هي الظاهرة كما في تحليلات علي جواد الطاهر وعبد الجبار عباس وعبد العزيز حمودة ومحمد مندور وغيرهم.
وإذا كان هذا هو المتحقق فعلياً على خارطة النقد العربي المعاصر، فما بالنا بخارطة النقد العربي الراهن، أما زال الناقد أو من يوصف بأنه ناقد يراوح عند ضفة من الضفاف، ولم يجازف بعد في دخول معترك الاندماج الذي به تنصهر الذات في ذوات ليندمج مجموعها في كينونة ثقافية واحدة هي نتاج تفاعل عسير ورهيب بين كل ما هو بحثي وكتابي وقرائي وتأريخي وفهرسي
وتحليلي ؟!!
ليس يسيراً الأجابة عن هذا التساؤل جزماً بنعم أو لا، لكن ما هو ممكن الادلاء به باتجاه بلوغ إجابة شافية تعطي صورة قطعية لواقع النقد العربي الراهن هو إجراء مسوح احصائية لأهم التجارب النقدية التي حظيت بالتقدير والإكبار حتى امتلكت الجدارة وأُعطيت لها الثقة المطلقة، سواء في نيل الجوائز أو في تسمية المؤتمرات أو الملتقيات والنوادي باسمائها أو ما شابه ذلك من منازل التفخيم ومراتب التعظيم.
وليس المراد من نقد هذه التجارب التقدير والتطبيب حسب وإنما التمحيص والتأويل والتفكيك إلى غير ذلك مما تقتضيه الممارسة النقد نقدية التي هي جزء لا يتجزأ من نقد أهم هو النقد الثقافي، بسبب مساحات الخوض المتاحة فيه وإمكانيات التحرر والتحرك التي لا تحدُّها حدود، سواء في المنهجيات والنظريات أو في المفاهيم
والاصطلاحات.
ولهذا كان ميشيل فوكو ناقدا وهو في أوج ممارسته التفلسف، كما كان بول ريكور فيلسوفا وهو في عزِّ
ممارسته التنظير السردي، وكان ادوارد سعيد ناقدا وهو في خضم تعليقاته السياسية والايديولجية وتحليلاته الاقتصادية وتشخيصاته الاجتماعية والفكرية وغيرهم كثير من نقاد ما بعد الحداثة الذين تجسدت في تجاربهم النقدية سمات الكينونة الناقدة الاندماجية التي فيها انصهرت كينونات
أخر وتمازجت واختلطت حتى غدت واحدة.