أحمد الشطري
تمثل قصيدة الجواهري (لغة الثياب او حوار صامت) أنموذجا مميزا من نماذج شاعريته الفذة، ليس في لغتها ورصانة سبكها وإنّما في طرافة موضوعها وما انطوت عليه من جماليات في أسلوب التعامل والعرض، فقد عمد الشاعر الى توظيف تقنيتي السرد والديالوج كفضاء تنمو داخله عشبة النص، فالشاعر يبتدأ قصيدته بمدخل سردي يفضي بعد ذلك الى حوارية بين الشاعر والثياب تتخللها او تتداخل معها حواريات الذات، ورغم تقليدية عتبة النص، إلّا أنّها تعبر عن تردد الشاعر واضطرابه النفسي من خلال استخدامه للحرف (أو)، كدلالة عن تردده بين عتبتين هما: (لغة الثياب)، والاخرى (حوار صامت)، واحسب ان هذا التردد ناتج عن حالة من الانبهار بجمالية ما أبدعته مخيلته، فبغض النظر عن فخامة اللغة التي هي صفة ملازمة لشعر الجواهري، إلّا أنّ تقنية تناوله لموضوعة قصيدته هي تقنية لم يألفها الشاعر من قبل، ويبدو لي أنّ الجواهري في هذه القصيدة كان واقعا تحت تأثيرات الحداثة الشعرية وتوظيفاتها، ومن خلال تاريخ نظم القصيدة الذي يحتمل ان يكون عام 1977 يمكن لنا ان نستدل على ذلك التأثير، فقد كانت تلك الفترة وما سبقها حافلة بالصراع، ليس بين (الحداثويين والكلاسيكيين)، بل بين دعاة الحداثة أنفسهم بشقيهم (قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر)، والجواهري كأي شاعر لا بدَّ أن يكون لدعوات الحداثة أثر على تجربته سلبا كان أم ايجابا، ويمكن لنا ان نلحظ ذلك الاثر من خلال دعوته الى إحياء الموشّح الاندلسي كسبيل للتحرر من قيود القافية والعروض كما كان يُروّج لأسباب الدعوة للتحديث؛ كما نلحظ ذلك ايضا في تقديمه نصا يعتمد اسلوب التفعيلة عام 1962، غير اننا لا يمكن ان نغفل ان الجواهري كان اول المدافعين عن العمود الشعري. وهو وان لم يكن من المنتمين الى الجماعات الادبية التي دعت الى الحداثة في (القصيدة العمودية) كجماعة ابولو وغيرهم، إلّا أنّه لم يكن بعيدا عن التحديث في أسلوبية التعامل مع المواضيع الموروثة، وخير مثال على ذلك قصيدته (فداء لمثواك) وقصيدته (أنيت) على الصعيدين الشكلي والاسلوبي.
لقد اعتمد الجواهري في قصيدته (لغة الثياب) تقنية أنسنة الاشياء فضلا عن تقنيتي السرد والحوار، وهي تقنيات أعطت للشاعر فسحة من التأمّل الفلسفي، والنظر بعمق في ظواهر الاشياء وبواطنها، ولم تخل هذه القصيدة من النظرة التهكميّة التي بدت واضحة بشكل جلي على اسلوب الجواهري بدءا من قصيدته الموجهة الى (محمد علي كلاي) وليس انتهاء بهذه القصيدة، لقد مثلت هذه الحوارية الصامتة التي ينقلها لنا الشاعر ضوءا كاشفا، يعرض لنا عبر مساقط متعددة تقلبات الانسان كفرد وكمجتمع، بين حالته وهو يقف امام نفسه متعريا من كل شيء وبين حالته وهو يقف امام الاخرين مستترا بما يجمل صورته ويعزز تضخمات الذات لديه. يبتدأ الشاعر قصيدته بفعل سردي يصور حالته او ابتداء حكايته:
شمرتُ أرداني لنصفِ
وغسلت أثوابي بكفّي
ونشرتها للشمس للنظــــــــــــرات، للأرواح تسفي
ثم ينتقل الى الاسلوب الوصفي لطبيعة تلك الثياب ووظائفها التي تضطلع بها، ثم يعود الى السردية كمدخل ناقل الى بدء الحوارية التي تنطوي على ذروة الحدث:
نعظت إليَّ رؤوسها
فيها تغامز ألف طرفِ
واستلت الأكمام ألسنة
مؤمّنة .. تقفّي
قالت بأفصح ما احتوت
لغة بلا نحو وصرف:
ورغم أنّ الشاعر استخدم ضمير المتحدث في سرده اي تقنية الراوي المشارك، الا ان الاحداث والحوار لم يكن موجها الى خصوصية الشاعر وانما كان الخطاب يحمل صفة العمومية، وهي التفاتة ذكية من الشاعر كون المحتوى الخطابي لا ينحصر بموصوفين محددين وانما هو محتوى عام يشمل كل الاجناس التي تستخدم ذلك الساتر الجمالي، ولذلك نرى الشاعر يستدعي الموروث التاريخي من خلال اولى عمليات كشف قبح التعري والذي استدعى ان تلجأ حواء الى التفتيش عن اول الثياب التي تستتر بها:
كم أنت قاسٍ.. يا ابن حواء مولعةٍ بخصفِ
هربت من العري الطهور وجنّةٍ تدوى وتشفي
وتقيلت وعثا تفجّر عن قلوبٍ فيه غلفِ
ثم ينتقل عبر حواريته الى كشف ما تضفيه هذه الثياب من جماليات على الجسد البشري، والتي تمنحه شعورا بالتفوق والانبهار تجعله يتيه عجبا ويتبختر تكبرا:
فاذا تقمَّصني تبختر
لا يُطاق من التكفي
وانصاع كالطاووس يســــحب ذيله فوق المزفِّ
ويعقد مقارنة بين حالته وهو في حلة الثياب مكسوا بالغرور والتيه وحالته وهو عار يعكس منظرا قبيحا هو اشبه ما يكون بالقرد:
يعرى فتحسب أنّه
قردٌ تنزّى تحت سقفِ
ما كان أحوج من يرقّــــــصه
الى صنج ودفِّ
إنّ هذه الحواريّة بما تنطوي عليه من تداعيات نفسية وفلسفية، انما تعكس وتعبر عن رؤية ونظرة الشاعر الى الطبيعة الجسدية المادية للإنسان، والتي يقدمها لنا على لسان (الثياب) الطرف المقابل في الحوارية، لكننا لم نرَ الشاعر يعرض رؤيته ونظرته الى الانسان بوصفه مصدر الفكر ومنبع الابداع، ويبدو لي أنّ مرد ذلك هو محاولته إبعاد (أنا) الشاعر عن الدخول كطرف في ذلك الصراع؛ ليكون الحوار بين الثياب والانسان بعمومية صفته، غير أنّ ضعف موقف الشاعر في الدفاع عن جنسه، يوحي لنا بمدى انحيازه وتبنيه لتلك الادعاءات التي قدمتها (الثياب)، محاولا إخراج ذاته حصرا من دائرة ذلك النقد، وان اتسمت تلك المحاولة بالضعف ايضا:
إنّي أحرّق زلتي
وخطيئتي بجحيم لهفي
وأديل سيء فعلةٍ
ما اسطعت من حسن بألف
يبدو أنّ الجواهري بأسلوبه التهكّمي في هذه القصيدة، كان ينطلق من احساس بالضجر والتبرّم مما يراه او يحسّ به من تردٍّ اخلاقي في البيئة الاجتماعية لبعض المحيطين به؛ ولذلك نراه يصرّح بذلك بقوله:
ورذاذ سم للصديق
يداف في عسل بلطف
كفٌّ تصافحه بها
ختلا.. وتذبحه بكفِّ
وتروح في خدع، وفي
ضرع، وفي نشر، ولفِّ
لتلفّ نعش جريمة
في بردتي عبث، وقصفِ
إذن هي ثورة الشاعر على الوضع الاجتماعي الذي يشعر أنّه محمّلا بالزيف والخداع، هذه الثورة ارتأى أن يضعها على لسان أكثر الأشياء التصاقا بهذا الإنسان، وأكثر وسائله التي يستخدمها في الخداع، إنّها تلك القطع من القماش التي يتزيّن ويتجمّل بها.