خورخي بوبليت ترجمة: بهاء سلمان
{عندما يتحد الناس، فلن يتم دحرهم مطلقا،} تنشد امرأة ملثمة وسط ساحة باكيودانو، موقعا لتجمع مركزي ضمن العاصمة التشيلية سانتياغو.
ومع تكرارها لهذه العبارة، ركض آلاف الناس، غالبيتهم من الشباب، بجميع الاتجاهات، هاربين من خراطيم المياه والغاز المسيّل للدموع، مع محاولة الشرطة التشيلية تفريق نحو عشرين ألف متظاهر، نزلوا الى الشوارع لعدة أيام، الأمر الذي جعل الحكومة تفرض حظراً للتجوال في سانتياغو التي تضم أكثر من سبعة ملايين نسمة.
تقول المرأة الملثمة، مارسيلا بالبونتين، وكانت تغطي وجهها بوشاح مزين برسوم لورود زرقاء وحمراء: “أقف هنا اليوم لأن الظلم الاجتماعي في تشيلي وصل الى حد بائس للغاية، ولدينا حكومة صمّاء لا تفهم أي شيء.” وبدأت سلسلة التظاهرات التي شلّت هذه الدولة الواقعة عند الشريط الغربي لقارة أميركا الجنوبية إثر حملة اطلقت على وسائط التواصل الاجتماعي من قبل طلبة المراحل المتوسطة والاعدادية الذين دعوا مستخدمي وسائط النقل العامة الى مهاجمة بوابات قطارات الأنفاق للتعبير عن رفضهم لارتفاع اسعار التذاكر وعموم أجور النقل التي أعلنت في السادس من تشرين الأول الماضي.
انتفاضة شعبيَّة
ومنذ ذلك الحين، انتشرت التظاهرات وحظر التجوال ليشمل غالبية البلاد، نتج عنها عدد من القتلى واعلان غير مسبوق لحالة الطوارئ، وهي المرة الأولى التي يحصل فيها ذلك تحت ظل حكومة منتخبة ديمقراطيا ضمن قارة أميركا الجنوبية. وحصلت أربع وفيات على أقل تقدير بسبب المواجهات مع الشرطة أو الجيش، وهناك آخرون قتلوا نتيجة لأعمال النهب أو الحرائق أو حوادث أخرى. وبحسب الحكومة، فقد خرج نحو 220 ألف متظاهر الى الشوارع على مستوى عموم البلاد في الثامن من تشرين الأول الماضي، ونظموا 54 تظاهرة منفردة استهدفت ادارة الرئيس سيبستيان بينيرا، الذي ألغى زيادة أجور النقل. ومع حلول ذلك الوقت، توسعت التظاهرات لتشمل مطالب تتعلق بتخفيف حالة التباين الاجتماعي السائدة في البلاد.
ومنحت حالة الطوارئ القوات المسلحة فرصة للسيطرة على الأمن وتمكنت السلطة من منع أية تجمعات حرة. وبالنسبة للعديد من التشيليين، أعادت مشاهد الجنود المنتشرين في الشوارع ذكريات الطغمة العسكرية التي حكمت البلاد بزعامة الجنرال اوغستو بينوشيه، الذي استولى على الحكم بانقلاب على النظام اليساري سنة 1973 واستمر ممسكا بالسلطة حتى العام 1990. تقول الممثلة بيلين ليفا والتي تبلغ من العمر 25 عاما: “والداي ينتميان الى جيل مذعور، لكن هناك جيل آخر لا يعرف الخوف، وهو حاضر هنا بقوة؛ وهذا ما جعل تشيلي تقف ثابتة لتقول كفى.”
ويعج شارع ألاميدا، وهو الشارع الرئيس في سانتياغو، بأصوات أغاني المطرب فيكتور جارا، الذي جرى تعذيبه وذبحه على أيدي أزلام نظام بينوشيه خلال الأيام الأولى من الانقلاب، وكانت الأغاني تصدر من الشقق المطلّة على الشارع، الذي لا يشهد حركة تذكر للسيارات بسبب المتاريس المشتعلة بالنار.
حالة معيشية صعبة
وتنتشر نقاط التفتيش العسكرية بين أرجاء المدينة، وينبغي على السكان تأمين ممرات آمنة لحركتهم بعد تطبيق حظر التجوال. ويشاهد الجنود في جميع محطات قطارات الأنفاق، التي هوجمت بعد اعلان رفع أسعار النقل. وعلى بعد ميل واحد غرب ساحة باكيودانو يقع فندق بلازا سان فرانسيسكو، حيث يعمل نيلسون كونتشا، 63 عاما، حارسا أمنيا ضمن نوبة العمل الليلية؛ ويتحدث عن مغادرة العديد من النزلاء للفندق، مذعورين من الأحداث الأخيرة التي شهدها بلد غالبا ما كان يصوّر بكونه واحة سلام ضمن قارة تخلّت عن العنف، على الرغم من وجود فروقات هائلة بين الأغنياء والفقراء.
يقول كونتشا: “عشت حقبة حكومة انقلاب بينوشيه العسكري، ولا أريد تمضية سنواتي الأخيرة بنفس الحال، ولذا لديّ أمل بوصول الأوضاع الى حالة من الهدوء، لكن مطالب الناس شرعية، فأنا سأتقاعد بعد سنتين، وشأني شأن الكثيرين، سأتلقى راتبا تقاعديا لا يزيد إلا بقليل عن مئتي دولار شهريا؛ وهذا الحال يجبر كبار السن على الاستمرار في العمل، وهو أمر خاطئ تماما.”ووسط تلك الأحداث، غيّر الرئيس بينيرا من نبرته، بعدما قال عند بداية التظاهرات أن “البلد يمر بحالة حرب”، ليقول مؤخرا: “من الواقعي أن المشاكل تراكمت على مدى عقود عديدة، وأن الحكومات المختلفة لم تتمكن من ادراك هذا الوضع الظالم والتعسفي على مستوى جميع مدياته، وأنا أقر واعتذر عن قصر النظر هذا.” ثم أعلن الرئيس حزمة من الاجراءات، شملت رفع الحد الأدنى من الأجور ودعم صندوق التقاعد وايقاف ارتفاع تسعيرة الطاقة الكهربائية وتقليص رواتب المسؤولين الكبار، ففي تشيلي، يتلقى عضو البرلمان راتبا يصل الى نحو 13 ألف دولار، قبل الاستقطاعات الضريبية. لكن تلك الاجراءات لم تأت بالنتائج المرجوة، فقد استمرت التظاهرات الحاشدة عبر البلاد على مدى الأيام التالية، ولا تزال تشيلي تحت حالة من الغليان حتى الوقت
الحاضر.