العنف !

الصفحة الاخيرة 2019/11/27
...

 جواد علي كسّار
صحيح أن العنف ظاهرة عالمية متفاقمة، فبحسب الإحصائيات شهدت المائة سنة الأخيرة من تاريخ العالم حروباً وصراعات، زادت عن تلك التي عانت منها البشرية خلال ألف عام؛ وصحيح أيضاً أن العالم من حولنا سجّل نشوب أكثر من (200) نزاع داخلي وإقليمي ودولي، جاءت حصيلتها ببساطة، مصرع (6ـ7) ملايين إنسان، كان ضحاياها من العراقيين في صدارة القائمة!
لكنّ الصحيح كذلك ان احتجاجات العراق، قد تصدّرت التظاهرات التي تضرب العديد من بلدان العالم في هذه اللحظة، من حيث العنف الإنساني وحجم التدمير العمراني، والتبعات المدمّرة في التعليم وتعطيل معائش الناس وأعمالها ومكاسبها، فضلاً عن الأضرار المعنوية في ضرب استقرار حياة الملايين الصامتة، التي تتقلّب بين الخوف والقلق وترقّب الأسوأ!
بلغة الأرقام يشهد العالم لحظة كتابة هذا العمود تظاهرات في ستة بلدان من أميركا اللاتينية، ومثل هذا العدد في آسيا بدءاً من هونغ كونغ انتهاءً ببغداد، مروراً بطهران، ولبنان، وبعض الحراك الشعبي في الكويت، وتوقعات عن الأردن، وربما بلد آخر. كما أن لأفريقيا حصتها من هذه الاحتجاجات في الجزائر وغيرها، دون أن ننسى تظاهرات السُتر الصفراء في فرنسا، التي مرّ عليها سنة، دون أن تشهد معالجات جذرية من قبل الحكومة الفرنسية.
تسجّل المعطيات الرقمية التوثيقية أن تظاهرات العراق واحتجاجاته هي الأعنف، تأتي في صدر القائمة بالدموية والتدمير والحرق، والتعرّض للممتلكات العامة والخاصة، تليها احتجاجات المدن الإيرانية، حيث طالت أعمال الحرق والتخريب والتدمير أكثر من (700) نقطة عامة وخاصة.
السؤال العميق والأساس : لماذا هذا العنف الهائل في الاحتجاجات العراقية؟ ما ثمّة إجماع على اجابة واحدة، بل من الصعب إن لم يكن من المستحيل الرسوّ على إجابة واحدة، في قضيّة اجتماعية اجتهادية معقدّة، لذلك اخترت العودة إلى كتاب الباحث العراقي د. فريد القيسي، المعنون: " العنف في العراق: دراسة  سوسيولوجية تحليلية نقدية في أسباب العنف"  حيث قدّم أكثر من عشر نظريات تفسيرية، انطلقت من موروث علوم النفس والاجتماع والبيئة، ومن منطلقات الثقافة والتأريخ والدين، ومن الاقتصاد أيضاً.
بشيء من التبسيط تقوم نظرية التفسير النفسي على أساس وجود غرائز تدفع الإنسان الى العنف، فيما يَفترض التفسير الاجتماعي اختلالاً في توازن النظام الجمعي، يؤدي الى اضطراب المعايير والجنوح صوب العنف. أما نظرية الضبط الذاتي فهي تعيد أسباب العنف إلى سوء التنشئة العائلية، باعتبار الأسرة هي المسؤول الرئيس عن أنواع الانحراف، ومنها العنف. هناك النظرية التي تفسّر العنف على أساس عوامل التصادم أو الصراع الحضاري، من خلال نشوء أنساق حضارية فرعية داخل المجتمع، تتحالف فيما بينها لضرب النسق الحضاري العام للمجتمع، ووسائل التواصل المكثّف عن " الجوكر الأميركي" ونمطيات الشعوب الأخرى لا سيّما الشباب، هي مصداق لهذا التصادم الناشئ بفعل العولمة.  
هناك نظريات تفسيرية أخرى تركز في أسباب العنف على الفعل الاجتماعي ودوره في الاستقرار وعدمه، إلى جوار نظرية سوء التنظيم الاجتماعي، مضافاً إلى التفسير الاقتصادي. وما أراه أن العنف في العراق وغيره، لا يُمكن تفسيره بنظريات العامل الواحد، فهو كظاهرة اجتماعية مركبة، تشترك في التمهيد له وانفجاره، جميع الأسباب المشار لها آنفاً وغيرها أيضاً.
أخيراً، صحيح أن العنف ليس خاصيّة عراقيّة، بقدر ما هو خصلة متجذّرة داخل الكينونة الإنسانية، تُستثار بمليون دافعٍ ودافع، إلا أن ما يروعني هو مشاهد القتل والحرق والتدمير والاعتداء، التي بلغت مداها الأقصى في بلدنا خلال الأسابيع الأربعة الماضية، ما يستدعي أن ندقّ جرس الإنذار من القادم، وإنا لله وإنا إليه راجعون!