رايس وباور نساء رسمن سياسة أوباما الخارجية

بانوراما 2019/11/30
...

جيمس تروب *
ترجمة: ليندا أدور
 القلة القليلة فقط من الناس هم من يجب أن يكتبوا مذكراتهم، فإن اصبحت ثريا أو متنفذا أو مشهورا، سيؤكد لك الكثيرون بأن لديك "قصة" لتخبرنا بها، وأن عليك القيام بذلك. لكن قد تكون الأسباب الحقيقية وراء نجاحك مرتبة عكسيا مع نوع من فهم الذات الضروري لجعل القصة تستحق الرواية.  وبينما قد يرغب القراء بمعرفة كيف سارت الأمور في السابق، لكنهم ربما ليسوا بذاك القدر من الاهتمام بحقيقة أنك عندما كنت صغيرة، نصحك والدك بأن: "لا  "تتحملي أعباء غيرك ". هذا هو "الحب القاسي"، وهو ما تحدثت عنه سوزان رايس في كتابها الذي حمل العنوان نفسه، عندما قالت إن والديها اتبعاه معها وهي بدورها فرضته على أصدقائها ومحبيها ومرؤوسيها، والذين بدا بعضهم غير راض عن المعاملة التي تلقاها.
مع ذلك، يبدو انها كانت انموذجا فعالا، فقد أصبحت سوزان رايس مساعدة لوزير الخارجية الأميركي وهي بسن 32 عاما، ومستشارة الأمن القومي للرئيس باراك أوباما وهي بعمر 48 عاما. 
لكن "الحب القاسي" ليس مصدرا للبصيرة الانسانية، فبعد أن أمضت حياتها وهي تركض بأسرع ما تستطيع، كتبت رايس تقول: "كان لدي القليل من الوقت لأستوعب وأتأمل ما اكتشفته عن نفسي وعائلتي"، أو أكثر من ذلك بكثير، لديها شعور بأنها قد أرجأت هذا الجهد حتى الآن.
 
حب وأحلام وتعليم
عبر كتابها الذي حمل عنوان: "الحب القاسي: قصتي عن أشياء تستحق القتال من أجلها"، تروي رايس، بحماس شديد، قصة نجاحاتها في الصف وساحة اللعب، وعن ألمها بسبب انفصال والديها، وعن صعودها السريع سلم السلطة، والمخاطر الحتمية للحياة الأسرية بسبب مهنة صنع سياسة الأمن القومي. فأوباما عندها، هو تلك الروح الطيبة، التي بالرغم من العالم المتشدد وموقف الجمهوريين المتصلب، تمكن من وضع النقاط على 
الحروف.
واشنطن مليئة بأناس كثر على شاكلة رايس، أذكياء جدا، وطموحين جدا ومحجمين عن صرف الانتباه عن أنفسهم من خلال تأمل الذات، اذ من النادر أن نجد شخصا يتمتع بحياة داخلية زاخرة ينجذب الى السلطة، وأحد هؤلاء بالطبع  كان أوباما الذي ارتبط كتاب مذكراته "أحلام من أبي: قصة عرق وإرث" بالحزن. اليوم، فان سامانثا باور، التي خلفت رايس كسفير لأوباما الى الأمم المتحدة، كتبت مذكراتها بأسلوب أقل ملحمية ضمن نطاقها، رغم أنها كانت أكثر عاطفية في حبكتها، من أوباما. 
على الرغم من أن عنوان مذكرات باور يقود القارئ الى توقع انها قصة عن المعاقبة، لكن الكاتبة، وهي صحفية سابقة، ألفت كتابا عن كيف أسهمت الحياة بتشكيل مبادئها، وكيف ان تجربة الحكومة كانت اختبارا لهما. فمن خلال كتاب "تعليم شخص مثالي: مذكرات"، تقدم باور نفسها على انها فاعلة خير بتسريحة شعر ذيل الحصان، تحمل حقيبة للكتب تغامر وسط عالم بعقول منغلقة يقوده شخص محب لعمل الخير، الذي لوحده من بينهم، تمسك بالمثل العليا والقانون الحديدي، وان أوباما(ها)، لا يزال محط اعجاب حتى وان لم يقدر على تحقيق آمالها العميقة. 
 
واقعية أم مثالية ؟
هناك ما يتوجب الاشارة اليه في ما يخص العلاقة بين التجربة الذاتية ونظرة العالم، التي بدت، على الأقل، ضمنية بكلا المؤلفين. فمن خلال سردها، تبدو رايس بالكاد منحرفة عن المسار الذي اختطته في طفولتها: عندما كانت بالمرحلة الثالثة، كتبت تقول: "ثقتي الشخصية بفكري ونفسي كانت ثابتة وراسخة"، وبدخولها سن العاشرة كانت قد تعهدت بأن تصبح سيناتورا أميركيا. 
تلك الثقة المبكرة بالنفس، كانت جزءا من نشأتها في كنف مؤسسة واشنطن: عمتها البديلة هي سيدة المجتمع، بيجي كوبر كافريتز، ومادلين اولبرايت كانت صديقة العائلة. مرت رايس باخفاقات أقل بكثير من بقية الناس، ولم يساورها الشك على الاطلاق بمواهبها. بعد ملاحظتها أن أوباما هو الشخص الأذكى بين الموجودين شعرت بأنه من الضروري أن تضيف: "شخصيا، كرهت الاعتراف 
بذلك". 
كونها أميركية من أصول أفريقية، فإن أكثر ما يبرز من شخصيتها هي أنها شخص من واشنطن، قضت حياتها كاملة وهي تفكر بالسياسة الخارجية وكيفية صياغتها، وبالتقاليد العقلية لذلك العالم، وبآفاقها وحدودها، وهي الطبيعة الثانية لها. وعندما تصف رايس نفسها بأنها "واقعية" أكثر من كونها "مثالية"، فهي تستحضر معيار الاحترافية أكثر من الاقناع الفكري.
على العكس منها، كانت سامانثا باور دخيلة، وقد شقت طريقها بنفسها بهدف الوصول. نشأت في ايرلندا، كانت باور تمتلك نوعية الأب الذي تتمناه جميع الفتيات: طويلا ووسيما وفاتنا، محبا للموسيقى والشعر وفطنا للغاية. لكنه، ثمل حتى الموت فدمر زواجه. لم تظهر باور بأنها قد احتفظت بذكرياتها المؤلمة، التي لطالما طاردتها طيلة حياتها المستقرة والمطمئنة في الولايات المتحدة التي انتقلت اليها وهي بسن التاسعة. 
 
إخفاقات وفشل
كانت سامنثا باور بالكاد تقرأ ما وراء الصفحات الرياضية، حتى التحاقها بجامعة ييل سنة 1988. دخلت اليها السياسة الخارجية، بداية على شكل أحداث ساحة تيانانمين وسط العاصمة الصينية بكين، ومن ثم المأساة الانسانية في البلقان. بالنسبة لباور وجمهور الصحفيين الذين عاصروا فترة إبادة مدينة سراييفو، لم تكن الشؤون الخارجية تمثل قضية ستراتيجية، وإنما دعوة 
أخلاقية. 
ناقشت باور عبر الكتاب الذي كان سبب شهرتها: "مشكلة من الجحيم: اميركا وعصر الإبادة الجماعية"، المنطق الذي ينشره اشخاص على شاكلة رايس، وحتى الليبراليين من محترفي السياسة الخارجية، لاقناع أنفسهم والآخرين بأنه لا شيء يمكن القيام به لمواجهة الإبادة الجماعية.
بحلول العام 2005، وجدت باور توأم روحها في "السيناتور" باراك أوباما الذي لم يكن يقرأ الكتب الجادة فحسب بل يؤلفها كذلك. 
في البداية، عيّنها أوباما كزميلة له، وبعد توليه منصب الرئيس، عينها بصفة المدير الأول للشؤون المتعددة الأطراف وحقوق الانسان بمجلس الأمن القومي، وقد بدا كل شيء غريبا بالنسبة اليها، مثل أي شخص لم يعتد الحياة داخل الحكومة الأميركية. عانت باور من شهرة مستحقة بسبب مثاليتها السامية. 
واستمرت باتباع نهج رايس عندما نصبها أوباما سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة سنة 2013.
بررت باور لنفسها قرار تخليها عن الصحافة والوسط الاكاديمي من أجل الحكومة على أساس انها يمكن ان تفعل المزيد من الخير هناك، على الأقل، تحت ظل رئيس كأوباما. وعندما سافر هو الى تركيا مع بداية فترته الرئاسية، حثته باور لكي يضغط على أنقرة للاعتراف بالابادة الجماعية التي ارتكبتها ضد الأرمن سنة 1915، لكنها واجهت مقاومة من حليف مقرب، عندما أخبرها أوباما صراحة: "أنا اشعر بالقلق على الأحياء من الأرمن وليس على الذين لا يمكننا إعادتهم الى 
الحياة". 
رغم إقرارها علانية بإخفاقاتها، لكنها لم تعلن بأنها معاقَبة ولم تتقبل ان يحكم عليها بالفشل. فقد نجحت سنة 2011 مع وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، ورايس وآخرين بإقناع أوباما المتعنت، بالانضمام الى تدخل عسكري لمنع فظائع وحشية في ليبيا. تفخر باور بتشكيل مجلس منع الفظائع الوحشية الذي صمم بهدف اعطاء تحذيرات مبكرة من عنف جماعي وتهيئة كيفية الرد عليه، بالرغم من أنها لم تقدم دليلا على أن ذلك ساهم برفع الوعي تجاهه أو غيّر من تصرفات إدارة أوباما.
سياسات ولوجستيات
خلال حديث رايس عن الفترة التي أمضتها في المنصب، تشير الى أنها كانت ضمن مديات أوسع من باور، حيث لعبت دورا مركزيا لإعداد جميع قرارات السياسة الخارجية للفترة الرئاسية الثانية لأوباما، فهي لم تعد فيلسوفا سياسيا أكثر من كونها كاتبة مذكرات. تصف كل من رايس وباور، تفصيليا، السياسات الصعبة واللوجستيات المعقدة التي نتج عنها استجابة الادارة الاميركية لأزمة فيروس ايبولا عندما فتك بالغرب الافريقي خلال صيف وخريف 2014.
 لم تفكر رايس بتمعن حول الانتقادات العميقة التي وجهت لأوباما، بأنه كان كثير الكلام وقليل الافعال، الى الحد الذي أصبح فيه مهووسا بالطائرات المسيرة بلا طيار (درون) والحروب السرية، لدرجة انه استوعب وبعمق الدروس المفترضة من العراق وبأنه لن يلجأ لاستخدام القوة حتى وان كانت مؤثرة. 
تقر رايس بخيبة بعض من آمالها الكبيرة ومنها الانهيار الفعلي لجنوب السودان بعد ولادة دولته، وهي الدراما التي لعبت هي فيها دورا رئيسا. كما تقر بفشلها وآخرين معها، في توقع التوسع السريع لدولة (داعش) الاسلامية. 
ومع ذلك، خلصت رايس الى أن أوباما، وسط تلك الاحداث المضطربة، كان وفيا لمبادئه، وان الجمع بين هذا الانسجام وعملية صنع القرار المتعلق بالأمن الوطني الذي أسست له، سمح للإدارة بأن تنجح بتوجيه الأزمات ووضع النقاط على الحروف.
برز الفرق بين رايس وباور في ما يتعلق بالمزاجية والنظرة نحو العالم بشكل واضح في مناقشتهما حول سوريا. فخلال العام 2011، عندما تحولت المعارضة السلمية هناك الى حرب أهلية، غالبا ما كانت الصحافة تصف رايس على انها حليف لسامانثا باور بقضية التدخل، لكونها شخصية مدنية، دعت الى تدخل عسكري ردا على الفظائع التي ارتكبتها الحكومة السودانية في اقليم دارفور. لكن ذلك، كان، بالتأكيد، قراءة خاطئة، فسوزان رايس، مثل اوباما، شخصية منسجمة مع حدود الممكن.  
 
مشروع تراجيدي
بالنسبة لباور، كانت سوريا قضية مؤلمة وشخصية للغاية، كانت تتألم عندما تستمع الى المتحدث بإسم الادارة الأميركية وهو يقدم مختلف التبريرات المؤلمة لعدم اتخاذ موقف كانت قد أتت على ذكره في كتابها "مشكلة من الجحيم". حالها حال الكثير من "المثاليين"، كانت باور مستعدة لأن تعبر عن اعتقادها بالقيام بما هو صائب وأن ينظر لها على انها تقوم بما هو صائب، يصب لصالح المصلحة القومية للولايات المتحدة. وكان ذلك هو النقاش الذي خسرته بشأن أرمينيا. 
ضمن منصبها كسفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، وبوصفها ممثلة لضمير أوباما، لعبت  باور دورا مهما في المحادثات التي جرت بشأن الرد على أنباء عن استخدام الرئيس السوري بشار الأسد للسلاح الكيمياوي أواسط آب من العام 2013. 
وعلى الرغم من معارضة رايس لتسليح المتمردين السوريين، أو انشاء منطقة حظر للطيران، إلا إنها انضمت إلى باور ووزير الخارجية جون كيري وآخرين في حث أوباما على فرض "الخط الأحمر" على استخدام الأسلحة الكيمياوية بتنفيذه الضربة الجوية.
عندما اخرج أوباما نفسه من المأزق بعدما عرضت روسيا مساعدة سوريا بالتخلص من سلاحها الكيمياوي، استنتجت رايس بأنها مخطئة، وأن أوباما على صواب، اذ تم انهاء هذا التهديد من دون استخدام القوة. أما باور، فرأت ان انجاز الهدف الأميركي كان أقل بروزا للإعلام من إنهاء المذابح التي استأنفت بعد أيام من موافقة سوريا على الاتفاقية، الأمر الذي دفعها لتوجيه النقد لأوباما عندما عبر، خلال حديثه لـمجلة "اتلانتك" الاميركية عن افتخاره بالوقوف ضد التدخل في سوريا، بأن تصريحاته كانت "مغالاة في الدفاع، فلا نستطيع وصف هذا الفصل بأنه مصدر فخر في السياسة الخارجية". إذا كانت كل مؤلفة منهما هي بطلة لقصتها، فان فوق كليهما، كان يوجد شخص بسلطة أعلى، يحدد لهما مصيرهما، وهذا الشخص هو باراك أوباما. فكلتا الكاتبتين تتركان لدى القارئ انطباعات مختلفة عن هذا الشخص الاستثنائي، بوصفه قريبا وحميما وبعيدا في الوقت ذاته. تقول رايس بأنه واقعي، مثلها، على الرغم من ايمانه بقدرة أميركا على تشكيل عالم أفضل. إلا إن باور، وبالرغم من احساسها الواضح بخيبة الأمل عبر العديد من اللحظات المهمة، رفضت هذا المصطلح، مشيرة الى استعداد الرئيس لاتخاذ موقف في ليبيا بالرغم من تحفظاته.
ان السياسة الخارجية هي مشروع تراجيدي، وهي قضية اختيار الشر الأقل بين شرور أخرى، وربما يكون "التعليم" في عنوان باور. فالفصل الأخير من كتابها، كان بعنوان "تقليص التغيير" وهو نسخة "العصر الجديد" لكتاب "الأفضل جيد". فقد تعلمت وكتبت، بأن حتى لو لم تستطع تغيير العالم، فبإمكانها استخدام السلطة التي منحت للقيام بأقل ما يمكنها القيام به.
 
*مجلة فورين بوليسي الأميركية