نساء يابانيات يرفضن الزواج

بانوراما 2019/12/01
...

موكوتو ريتش  
ترجمة: مي اسماعيل 
ارتدت العروس ثوبا بهيجا ذا تنورة واسعة، وثبتت برقعا (طرحة) على شعرها، ووقفت لحظات أعلى السلم قبل أن تنزل الى ارضية القاعة. لم يكن هذا زواجا تقليديا يربط بين شخصين؛ بل اجتمع نحو ثلاثين من الاصدقاء بقاعة احتفال في احدى مناطق طوكيو الارستقراطية، ليشهدوا حفل زفاف “ساناي هاناوكا” (31 سنة) وهي تعلن حبها لنفسها.. قالت ساناي بعدما شكرت الاصدقاء لحضور حفل زفافها المنفرد: “اريد اكتشاف كيفية الحياة بمفردي، وأن أعتمد على قوتي الذاتية”.  
منذ وقت ليس بالبعيد كانت المرأة اليابانية التي لم تتزوج حتى سن الخامسة والعشرين تسمى “كعكة عيد الميلاد-Christmas cake”؛ وهو تلميح قاسٍ يقارنهن بحلويات العيد القديمة التي لا يمكن بيعها بعد الخامس والعشرين من كانون الأول. اليوم بهتت مثل تلك الاهانات الصريحة؛ إذ يزداد عدد النساء اليابانيات اللواتي يؤجلن مشاريع الزواج أو يمتنعن عنه كليا؛ رافضات المسار التقليدي الذي يقود الى ما باتت الكثيرات اليوم يعتبرنه حياة كدحٍ منزلي. ارتفعت نسبة النساء العاملات في اليابان اليوم الى أعلى معدلاتها؛ لكن المعايير الاجتماعية لم تلحق بتلك الأرقام.. إذ ما زال متوقعا من الزوجات والأمهات اليابانيات (كما كان معتادا) حمل الاعمال المنزلية ورعاية الاطفال والأقارب من كبار السن، وهو ما يعيق تقدم الكثيرات في المجال المهني. ولرغبتهن بتجاوز تلك المعايير المزدوجة؛ تزايد عزوف النساء اليابانيات عن الزواج كلية، ليركزن على أعمالهن وحرياتهن حديثة الاكتشاف؛ ما أثار قلق السياسيين اليابانيين الذي تشغلهم معالجة مشكلة انخفاض أعداد الشعب
الياباني.
 
خدمات وفيرة للعازبات
وفقا للاحصاءات الحكومية (حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي) بقيت واحدة فقط من بين كل عشرين امرأة يابانية (حين وصولهن سن الخمسين) من دون زواج. ولكن خلال سنة 2015 (آخر سنة توفرت فيها هذه الاحصاءات) تغيرت تلك النسبة جذريا؛ إذ بقيت واحدة من كل سبع نساء بلا زواج في هذه السن. وارتفعت هذه النسبة بين النساء بأعمار 35 - 39 سنة؛ إذ بقي نحو الربع منهن بلا زواج اطلاقا، مقارنة بنحو عشرة بالمئة فقط قبل عقدين من الزمن. هذا التغيير كان مدهشا حتى باتت العديد من المصالح التجارية تقدم خدماتها للعزاب (خاصة النساء).. هناك اليوم صالونات الرقص التي تحدد مناطق للنساء فقط، ومطاعم مصممة للزبائن المنفردين، ومجمعات سكنية تدعو النساء العازبات لشراء أو استئجار منازل خاصة. تقدم شركات السياحة عطلات للنساء العازبات، بينما تعرض ستوديوهات التصوير جلسات ترتدي فيها العازبات فساتين الزفاف ويلتقطن صور
عرس منفردة.  
تقول “كايوكو ماسودا” (49 سنة، رسامة كارتون عازبة): “قلت لنفسي: اذا تزوجت فسيكون علي أداء المزيد من الأعمال المنزلية.. أنا أحب عملي وأردت العيش بحرية لمتابعة ذلك العمل”. خلال العام الماضي وصل عدد الذين عقدوا قرانهم في اليابان أقل معدلاته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وفقا للتقديرات الحكومية. وهي السنة السادسة على التوالي التي تشهد البلاد فيها تناقص معدلات الزواج؛ الذي ينخفض بتسارع أكبر من انخفاض عدد نفوس اليابان عموما. لا عجب أن تنخفض معدلات الولادات بسرعة صاعقة في بلد لا ينجب فيه الناس عموما خارج نطاق الزواج؛ إذ انخفض عدد المواليد طيلة العام الماضي الى أقل مستوياته منذ سنة 1899 (حين بدأ تدوين سجلات المواليد). 
 
لا مخاوف اقتصادية
بدأت الحكومات المحلية (الراغبة بتشجيع الزواج ورفع معدلات الخصوبة) بحملات لجمع الشباب معا؛ وتحدث أحد الاعلانات عن رحلات لتشجيع التعارف والخطوبة للعزاب، تمولها حكومة طوكيو المركزية: “نعمل لتأسيس ذهنية للزواج”.
ولكن بالنسبة لأعداد متزايدة من النساء اليابانيات (اللواتي كانت العلاقات التقليدية مع الأزواج والأطفال وباقي أفراد الاسرة تشكل حاجزا أمامهن تجاه العمل) باتت العزوبية تعني نوعا من الحرية. تقول “ماري ميورا”، بروفيسورة العلوم السياسية بجامعة سوفيا- طوكيو: “عندما تتزوج اليابانيات يكون عليهن التخلي عن أشياء كثيرة.. الكثير من الحريات
 والاستقلالية”. 
يرتبط هذا التحول بتغيرات قوة العمل اليابانية؛ إذ تعمل نحو سبعين بالمئة من اليابانيات بين سن 15 - 64.. وهو معدل قياسي. لكن مهنهن تتأثر غالبا بالمد الطاغي للأعباء الأسرية؛ ومنها- ملء الجداول اليومية الدقيقة المطلوبة في حضانات الاطفال، واعداد وجبات الطعام المنمقة المتوقعة عادة من المرأة اليابانية، والاشراف وتوجيه الواجبات المنزلية من دروس التعليم المدرسي وما بعد المدرسة، أو الذهاب لمحال غسيل الملابس (إذ لا تمتلك أغلب الاسر أجهزة التجفيف الكهربائية). بالرغم أن قول بعض الرجال أنهم يرغبون بتقديم المزيد من العون منزليا، ودعوة الحكومة أرباب العمل لإصلاح الثقافة المهنية الصارمة؛ ما زال متوقعا من الموظفين تكريس أغلب ساعات يومهم للشركات التي يعملون فيها، ما يجعل من الصعب على الكثير من الازواج المساهمة في مهام
 المنزل. 
تقول “كوميكو نيموتو” استاذة علم الاجتماع بجامعة كيوتو للدراسات الاجنبية: “من الواضح للعديد من النساء العاملات أن من الصعب جدا العثور على رجل يمكنه القيام بمهمة رعاية الاسرة”. وتضيف بأن الثقافة اليابانية ذات التوجهات الاستهلاكية باتت تعني أيضا أن للنساء العازبات ذوات المهن والمدخولات الخاصة كما واسعا من النشاطات والمنافذ العاطفية التي لم تتوافر لأمهاتهن أو جداتهن؛ وهكذا لم تعد المرأة اليابانية تعتمد على الزوج لضمان الأمان
 الاقتصادي. 
أما “ميكي ماتسوي” (49 سنة، مديرة احدى دور النشر بطوكيو) فتعلق: “من الاسباب التي تدفع النساء للزواج- الحصول على حياة اقتصادية مستقرة؛ لكنني لا أشعر بالقلق لبقائي وحيدة ولا مخاوف اقتصادية؛ لذا لم أحتج لأن أضع نفسي في زاوية اختيار الزواج لأسباب اقتصادية”.  
تشعر بعض العازبات بالقلق حين يراقبن الحياة الاسرية لصديقات متزوجات؛ ومنهن- “شيغيكو شيروتا” (48 سنة، مديرة دار حضانة، التي تسكن شقة فاخرة اشترتها بنفسها)؛ قائلة  :إن العديد من صديقاتها المتزوجات يلازمن المنازل مع أطفالهن ولا يحظين بمساعدة أزواجهن الا نادرا: “ليس من العدل أن تضطر النساء للبقاء في المنزل طيلة الوقت، فقد يشعرن بالسعادة مع أطفالهن؛ لكنهن لا يحظين بمساعدة
 الازواج الا قليلا”. 
 
للرجال مخاوف أيضا
أصبح بعض الرجال اليابانيين يواجهون الواقع الاقتصادي الياباني المعاصر بالابتعاد عن الزواج أيضا؛ فمنذ انهيار فقاعة مضاربات البورصة والعقارات اليابانية مع أوائل التسعينيات، تجمدت الاجور وتلاشت المواثيق الاجتماعية قديمة العهد بين رب العمل والموظفين (الذي لم يسمح بتسريح إلا عدد قليل من العاملين ويضمن
 وظيفة طيلة العمر). 
واليوم يعمل نحو خُمس الرجال اليابانيين بوظائف عبر عقود غير منتظمة لا توفر الا القليل من الاستقرار وامكانيات التقدم. ولأن التوقعات الاجتماعية ترى أن على الرجال كسب الدخل الأساس للأسرة؛ يشعر العديد منهم بالقلق إزاء العمل لإعالة الاسرة اقتصاديا. لم يتزوج أكثر من ثلث الرجال بعمر 35- 39 سنة أبدا؛ ما شكل ارتفاعا في عدد العزاب بأكثر من الربع خلال عقدين من الزمن. 
يقول “كازوهيشا آراكاوا” (مدير تنفيذي لشركة تسويق ومؤلف كتب “مجتمع الفرد المتفوق” و”نهوض اقتصاد الفرد”): “لم تعد رواتب الرجال ترتفع هذه الايام؛ لذا لم يعودوا يكسبون ما يكفي لإعالة أسرهم”. يقول “آراكاوا” الذي بدأ العمل منذ نهاية حقبة الفقاعة المالية وما زال عازبا، أن العديد من زملائه الرجال باتوا ينظرون للزواج على انه عبء. 
لكن مسارات القلوب لا تتسق بالضرورة مع الظروف الاقتصادية؛ ويقول الخبراء أن البقاء دون زواج ليس بالموقف المتعمد، وإنما انعكاسا، لأن الحاجة الى الزواج تضاءلت كثيرا في مجتمع اليوم؛ كما يرى “جيمس رايمو” (استاذ علم الاجتماع بجامعة ويسكانسون- ماديسون، الذي كتب كثيرا عن الزواج في اليابان) قائلا: “تذكر البيانات أن القليل من النساء فقط ينظرن الى الخارطة الاجتماعية ويرددن: “قررت عدم الزواج”. بل الارجح أن يؤجلن الموضوع ثم يؤجلنه ثانية انتظارا للظروف المناسبة.. وحين لا تأتي تلك الظروف المناسبة أبدا يمضين في حياة دائمة
العزوبية”. 
عاشت “كايوري شيبويا” (42 سنة) علاقة عاطفية خلال سنوات العشرينيات من عمرها؛ لكنها لم تنتهِ بالزواج، وحينما اتتها فرصة الزواج المرتب (عن طريق مكتب التزويج) عندما دخلت سن الثلاثينيات من العمر لم تشعر بالميل لاتمام الأمر.. تقول: “لا اعتقد أنني اخترت مسارا لنفسي؛ لكنني صادفت بعض الفرص المتنوعة”. تعيش شيبويا مع والدتها الارملة، وترى أن بعض النساء يخترن الزواج لشعورهن بالضعف في العزوبية؛ لكنها افتتحت عملها الخاص منذ سنتين وشعرت بالثقة لأنها تعيل
نفسها. 
لا تسعى النساء اليابانيات اللواتي لا يرغبن بانجاب الاطفال عموما الى الزواج؛ ومع ذلك ترتفع أعداد الامهات الوحيدات هناك بسبب الطلاق. تقول “ماري برينتون” استاذة علم الاجتماع بجامعة هارفارد ودارسة المجتمع الياباني المعاصر: “ليس من المبالغة القول أن اليابانيين يتزوجون عندما يرغبون بانجاب الاطفال؛ فاذا لم يرغبوا بالانجاب ستقل الاسباب التي تدفعهم للزواج”. 
عن صحيفة الاندبندنت البريطانية