كيف يخوض مرتزقة الانترنت المعارك لصالح حكومات مستبدة؟

بانوراما 2019/12/01
...

مارك مازيتي وآدم غولدمان ورونن برغمان ونيكول بيرلروث  ترجمة: انيس الصفار     

انكب الرجل الذي اوكلت اليه الحملة السعودية الحامية لاخماد صوت المنشقين باحثاً عن وسائل تمكن من التجسس على الأشخاص الذين يعتبرون مصدر تهديد للمملكة .. كان يعلم تماماً أين ينبغي البحث .. فمطلبه موجود لدى شركة اسرائيلية سرية تعرض تقنيات طورها عاملون سابقون تابعون لجهاز المخابرات.
كان الزمن هو أواخر العام 2017، وكان سعود القحطاني (الذي شغل حينها منصب المستشار الاعلى لولي العهد السعودي القوي النفوذ) يتعقب المنشقين والمعارضين السعوديين في انحاء العالم. أما ما يفعله فقد كان جزءاً من مساعي الاستطلاع الواسعة المفصلة التي اسفرت في نهاية المطاف عن مقتل الصحفي جمال خاشقجي. في احدى الرسائل التي تبادلها مع موظفي تلك الشركة، واسمها مجموعة “أن أس أو”، تحدث القحطاني عن خطط واسعة لاستخدام وسائلهم الاستطلاعية في عموم منطقة الشرق الأوسط وأوروبا، مثل تركيا وقطر وفرنسا وبريطانيا.
اعتماد الحكومة السعودية على شركة عائدة لاسرائيل، التي كانت على مدى العقود عدواً لدوداً، يعطي لمحة عن عصر جديد من الحروب الرقمية التي تمثل نشاطاً اقتصادياً مزدهراً لا تكاد تحكمه قواعد تقدر قيمته اليوم بنحو 12 مليار دولار، قوامه وأساس عمله هو: جواسيس للايجار.
في هذه الايام يستطيع أصغر بلد في العالم ان يشتري خدمات تجسس رقمية تمكنه من القيام بعمليات بالغة التعقيد مثل التنصت الالكتروني أو التأثير على مسار حملة ما، وهي أمور كانت ذات يوم حكراً على القوى الجبارة الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا. مؤسسات تريد التسلل الى اسرار مؤسسات منافسة لها، أو ثري لديه غضاضة من مزاحم له، كلاهما يستطيع أن يجد طوع بنانه وسائل تجسس متاحة مقابل سعر مناسب، المسألة باتت مثل شراء سلعة من على رفوف وكالة الأمن القومي أو الموساد.
مجموعة “أن أس أو” ومنافستها شركة “دارك ماتر” الإماراتية مثالان يجسدان انتشار وسائل التجسس التي اخذت تنشط في القطاع الخاص. اجرت صحيفة “نيويورك تايمز” تحرياً استغرق شهراً كاملاً اساسه مقابلات مع قراصنة تسلل حاليين وسابقين عملوا لصالح حكومات وشركات خاصة وآخرين غيرهم، الى جانب مراجعة ملفات ووثائق. كشف ذلك التحري عن مناوشات خفية تدور سراً في عالم المنازلات الرقمية الآخذ بالانتعاش هذا.
هذه الشركات لم تمكن الحكومات فقط من اختراق العناصر والشبكات الاجرامية، مثل الجماعات الارهابية وكارتيلات المخدرات، بل ايضاً من التسلل في كثير من الأحيان الى غايات أكثر خفاء ودهاء فاستهدفت الناشطين والصحفيين. قراصنة الانترنت المدربين على ايدي وكالات التجسس الاميركية أوقعوا في شباكهم شخصيات أميركية تنشط في ميادين المال والأعمال وعاملين في ميادين حقوق الانسان. المرتزقة السيبرانيون العاملون لدى “دارك ماتر” أحالوا اجهزة منزلية عادية وشاشات لعب الاطفال الى وسائل للتجسس.
أفادنا اربعة اشخاص مطلعون بأن مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي “أف بي آي” قد أجرى تحقيقاً شمل موظفين أميركيين حاليين وسابقين لدى شركة “دارك ماتر”. تصاعد التركيز على عمليات التحري عندما شعر احد موظفي الشركة المذكورة، وكان يعمل في الماضي قرصاناً (هاكر) لدى وكالة الأمن القومي، بالقلق من طبيعة نشاطاتها وافضى بشكوكه الى مكتب التحقيقات الفدرالي، وفقاً لتقرير وكالة رويترز.
توصل تقرير صحيفة “نيويورك تايمز” ايضاً الى ان المنافسة محتدمة بين مجموعة “أن أس أو” وشركة “دارك ماتر”، وهما تدفعان بسخاء لكبار القراصنة الموهوبين من اسرائيل والولايات المتحدة ودول أخرى، كما تختلس كل منهما المجندين من الاخرى.
الشرق الأوسط هو اليوم المركز المحوري لهذه الحقبة الجديدة، حقبة التجسس لحسابات خاصة. فإلى جانب “أن أس أو” و”دارك ماتر” هناك شركة “بلاك كيوب” – ومعناها المكعب الأسود- التي يديرها عاملون سابقون في اجهزة الموساد والاستخبارات العسكرية الاسرائيلية. هذه الشركة اكتسبت شهرة سيئة عندما استأجرها احد أقطاب هوليوود اسمه “هارفي واينشتاين”، وهو شخص ذاعت سمعته الشائنة، كي تساعده في العثور على ما يلطخ به صورة من يتهمونه. هناك ايضاً شركة “ساي غروب”، وهي شركة اسرائيلية متخصصة بالتلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي، وقد عملت لصالح الطبقة الحاكمة في روسيا وتمكنت في العام 2016 من القاء ثقلها لصالح حملة ترامب بخطة اعتمدت بناء جيش من الروبوتات والأفاتارات الآلية على شبكة الانترنت لإمالة كفة أصوات الجمهوريين. 
في العام الماضي أقام رجل اعمال أميركي ثري اسمه “إيليوت برويدي” دعوى قضائية على حكومة قطر وعلى شركة اخرى مقرها نيويورك يديرها ضابط سابق في وكالة المخابرات المركزية اسمها “غلوبال رسك للاستشارات” بتهمة احداث خرق معقد في شركته أدى الى تسرب ألوف الرسائل الالكترونية الى العلن. ادعى برويدي ان العملية كانت وراءها دوافع جيوسياسية، ففي بداية عهد ادارة ترامب كان برويدي يحث البيت الأبيض على تبني سياسات معادية لقطر، وفي الوقت نفسه كانت شركته على وشك ابرام عقود بمئات الملايين من الدولارات مع الامارات العربية المنافس اللدود لقطر.
أسقط القضاء دعوى برويدي، ولكن الشكوك بقيت تتنامى حول دور قطر في عمليات أخرى من بينها سرقة وتسريب رسائل يوسف العتيبة سفير الإمارت في  واشنطن.
التوسع السريع في ميادين معارك التكنولوجيا العالية هذه على نطاق العالم، حيث تشتبك جيوش المرتزقة السيبرانيين مع بعضها، استدعت اطلاق التحذيرات من مستقبل تعمه الاخطار والفوضى.
يقول “روبرت جونستون” مؤسس شركة “أدلومين” للأمن السيبراني وأحد المحققين الرئيسيين في قضية القرصنة الروسية على اللجنة الوطنية الديمقراطية في 2016: “أي بلد مهما كان صغيراً وبميزانية صغيرة للغاية يستطيع امتلاك قدرات هجومية هنا، أو حتى شن هجمات على خصومه عبر شبكة الانترنت. فقطر والإمارات العربية مثلاً مشتبكتان مع بعضهما، والحرب بينهما قد اصبحت دموية للغاية، فحواجز الدخول الى هذا الفضاء مستمرة في التراجع والانخفاض اكثر فأكثر.”
 
استغلال الثغرات الأمنية
قبل أن تبدأ “أن أس أو” بمساعدة الحكومة السعودية على تعقب خصومها خارج المملكة، أو مساعدة الحكومة المكسيكية على ملاحقة ملوك المخدرات والايقاع بهم، وقبل أن تبدأ بجني ارباح تقدر بمئات ملايين الدولارات من العمل لحساب عشرات الدول على القارات الست، كانت هذه الشركة تتألف من صديقين في احدى المدارس الثانوية في شمال اسرائيل جمعت بينهما فكرة واقعية.
بواسطة تقنية طورها عناصر من خريجي وحدة المخابرات 8200، وهي المرادف الاسرائيلي لوكالة الأمن القومي، بدأ “شاليف هوليو” و”عومري لافي” في العام 2008 شركة تمكن شركات الهواتف النقالة من النفوذ الى اجهزة زبائنها عن بعد لإجراء بعض اعمال الصيانة.
تناهى الخبر الى وكالات التجسس الغربية وسرعان ما شخص العاملون فيها فرصة كانوا يتحينونها. في ذلك الوقت كان المسؤولون الأميركيون والاوروبيون يحذرون من أن أبل وفيسبوك وغوغل وغيرهم من عمالقة التكنولوجيا منكبون على تطوير تقنيات تسمح للمجرمين والارهابيين بالتواصل فيما بينهم عبر قنوات مشفرة لا تتمكن وكالات الاستخبارات ونشر القانون من فك رموزها، وكانوا يطلقون على هذه الظاهرة وصف “التستر بالظلام”.
طرح هوليو ولافي طريقة للالتفاف حول هذه المشكلة وذلك باختراق نقاط النهاية لخطوط الاتصال، أي الهواتف نفسها، وذلك في لحظة فك الشفرة وتحرير البيانات.
بحلول العام 2011 كانت “أن أس أو” قد طوّرت نسختها الأولية، وهي اداة لإجراء مسح على الهواتف النقالة اسمتها “بيغاسوس”. اداة “أن أس أو” هذه كانت قادرة، مثل حصان الاساطير الاغريقية المجنح الذي تحمل اسمه، على فعل ما يبدو محالاً، وهو جمع قدر هائل من بيانات الهواتف الذكية التي لم يكن بالامكان النفوذ اليها في الماضي، من الهواء وبدون ترك أي اثر او بصمة، بما في ذلك المكالمات الهاتفية والرسائل النصية والالكترونية وقائمة المتصلين والموقع واية بيانات يجري تناقلها عبر تطبيقات مثل فيسبوك وواتساب وسكايب.
يقول “أفي روزن” من شركة “كايميرا”، وهي شركة اسرائيلية للدفاع السيبراني، متحدثاً عن “أن أس أو”: “ما أن تغزو هذه الشركات هاتفك حتى يصبح ملكاً لها وليس لك، فما أنت سوى حامل تحمله معك وتتنقل به.”
حصلت بيغاسوس بسرعة على أول زبون لها، وهو حكومة المكسيك التي كانت تشن حملة على كارتيلات المخدرات. بحلول العام 2013 كانت “أن أس أو” قد نصبت بيغاسوس في ثلاث وكالات مكسيكية، كما تفيد رسائل الكترونية حصلت عليها صحيفة نيويورك تايمز. تقدر هذه الرسائل حجم المبيعات الاجمالي من المعدات والبرمجيات للحكومة المكسيكية بنحو 15 مليون دولار. استمرت المكسيك بدفع مبلغ 77 مليون دولار للشركة من اجل تعقب كل تحرك تقوم به شبكة واسعة من الاهداف مع ضرب هواتفهم. 
كانت منتجات “أن أس أو” ضرورة مهمة لحرب المكسيك ضد الكارتيلات، كما يقول اربعة اشخاص من المطلعين على كيفية استخدام الحكومة المكسيكية لبيغاسوس. وقد نسب المسؤولون المكسيكيون الفضل الى بيغاسوس ودورها الفعال في المساعدة على تعقب ملك المخدرات المشهور “إل تشابو” والامساك به ليواجه حكماً قضائياً بالسجن مدى الحياة. 
لم يمضِ وقت طويل حتى كانت “أن أس أو” تبيع خدماتها الى الحكومات في شتى انحاء العالم، وتدعي الشركة اليوم أن لها زبائن منتشرون في جميع القارات باستثناء القطب المنجمد الجنوبي. منتجات شركة “أن أس أو”، وخصوصاً بيغاسوس، ساعدت في تفتيت خلايا ارهابية وأعانت عمليات التحقيق في قضايا تتعلق بالجريمة المنظمة واختطاف الاطفال، كما افاد مسؤولو المخابرات وتطبيق القانون الأوروبيون في مقابلات اجريت معهم. 
التجسس على المواطنين
استخدم الزبون الأول لشركة “أن أس أو”، أي الحكومة المكسيكية، وسائل القرصنة لأغراض سيئة ايضاً (كجزء من مسعى أوسع تقوم به الحكومة والقطاع الصناعي)، حيث استخدمت منتجات “أن أس أو” لتعقب نحو أربعة وعشرين شخصاً على الأقل من الصحفيين ومنتقدي الحكومة والمحققين الدوليين الذين يدققون في حالات اختفاء 43 طالباً، وحتى من مؤيدي ضريبة الصودا، وفقاً لما توصلت اليه تحقيقات صحيفة نيويورك تايمز والبحث الذي اجراه “ستزن لاب” ومعناه “مختبر المواطن”، التابع لجامعة تورنتو.
تعرض هؤلاء المستهدفون لوابل من الرسائل النصية العدوانية التي احتوت على برامج خبيثة. بعض الرسائل كانت تحذرهم من انغماس زوجاتهم في علاقات منحرفة، وبعضها الاخر نقل اليهم اخبار وفاة اقارب لهم. في احدى الحالات لجأ المسؤولون الحكوميون، بعد أن عجزوا عن اختراق هاتف احدى الصحفيات، الى استهداف ولدها ذو 16 عاماً.
رغم ادعاء شركة “أن أس أو” بأنها لا تبيع خدماتها إلا لجهات تحقيق متخصصة بمكافحة الجريمة والارهاب فإن أي من الاشخاص المكسيكيين الذين تعرضوا للاستهداف لم يكن مشتبهاً به في نشاطات تتعلق بالجريمة او الارهاب وفقاً للتحقيقات.
صدر عن الشركة تصريح قالت فيه: “لقد ساعدت تكنولوجيا (أن أس أو) على منع وقوع جرائم بشعة وهجمات ارهابية مميتة في مختلف انحاء العالم. نحن لا نتساهل ازاء سوء استخدام منتجاتنا ونقوم بشكل منتظم بتدقيق ومراجعة عقودنا لضمان عدم استخدامها لأية غاية اخرى غير منع الارهاب والجريمة او التحري عنهما.”