جواد علي كسّار
لا معنى في الحياة للثنائيات الحادّة، بل هناك على الدوام خيار ثالث، وليس المقصود بالخيار الثالث معناه العددي، بحيث يكون أمامنا خيار ثالث يضاف إلى خيارين؛ بل المقصود ان الحلول متاحة بخيارات عديدة، خارج نطاق الثنائيات الحادّة. يصحّ هذا في أغلب حقول الحياة، إن لم يكن فيها جميعاً، كما يسري في الجوانب المعقدة من الحياة، وفي مجالاتها المعيشية البسيطة، كالسكن والتعليم والطعام والشراب والملابس والسفر وأمثال ذلك.
لكنها مشكلة التنميط أو التأطير التي نقع فيها جميعاً، وتحاصرنا بثنائياتها الحادّة. أرجو المعذرة من هذا التبسيط ، لكن حين يعرض علينا أحدهم: هل تشرب الشاي أو القهوة؟ وهل تأكل الكباب أو السمك؟ وهل تسافر إلى طهران أو اسطنبول؟ وهل تلبس هذا القميص أو ذاك؟ إنما يضعنا من خلال هذا المنطق، أمام الثنائيات، ما يوهم عقولنا ويقرّ في نفوسنا، أنه لا سبيل أمامنا أما هذا الخيار أو ذاك، ولا شيء آخر خارج نطاق هذه الكماشة، التي تضغط على العقل وتجمده، وتعطّل تفكيرنا برخاوتها والسهولة التي تضعها بين أيدينا.
عمليات توجيه الرأي العام وتحريكه، في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة والإعلام والآداب والفنون، أو قصف العقول بحسب فيليب تايلور، المختص بمتابعة تأثير وسائل الإتصال الجماهيري الحديثة، إنما تأخذ من التأطير والتنميط، واحداً من أهمّ مرتكزاتها في تحقيق مآربها وما تخطّط له، وإلا فلا وجود للقسمة الحاصرة أو الثنائيات الحادّة، إلا في نطاق المنطق الصوري الصرف، وبعض مسائل الرياضيات، وقلة قليلة من قضايا الطبيعة، كمثل قولنا إن العدد إما زوجي أو فردي، وان الوقت إما ليل أو نهار، وبقية التسميات مثل الغسق والفجر والضحى والغروب والحالات تندرج في أحدهما.
من مشكلاتنا المعرفية في الفكر، التورط الواسع بمنطق الثنائيات الحادّة والحاصرة، التي تؤدي إلى شلل التفكير وسبات العقل، وقتل الأمل ونشر الإحباط واليأس والسوداوية في النفوس. آثار هذه الحالة تبرز على نحو تخريبي مدمّر، حين نفكر بالسياسة ونتعامل معها بهذا المنطق.
السياسة بأبسط تعريفاتها هي فنّ الممكن، والذكي الحاذق من السياسيين، هو القادر على أن يزودنا بخيارات وحلول، خارج نطاق الثنائيات الحادّة أو الحاصرة، والشعوب الحيّة الفاعلة، هي القادرة على إنتاج المزيد من المسارات، من خضّم أزماتها ومن معترك معاناتها. أسجّل هذه الملاحظة لكي نواجه نمطاً من التفكير، راح صوته يرتفع في أزمة البلد الحاضرة، وهو يضع العراق أمام خيارين يوهم أن لا ثالث لهما؛ إما هذا المحور أو ذاك المحور! لا أقصد التورّط بالبلاغة الكلامية أو التضخّم اللفظي، لكن أحسب أن أمام العراق في منطق السياسة، خيارات عديدة قادرة على ان تخرجه من الاستقطاب المحوري، إلى هذا المحور أو ذاك، بل ان واحداً من أهمّ أسباب الأزمة الحالية، هو الانخراط في السياسة المحورية، التي انزلق إليها العراق مع بداية الأزمة السورية أوائل عام 2011، ثمّ راحت تبعاتها السلبية تتراكم، حتى تحولت إلى أزمة أسهمت إلى حدّ كبير، في انفجار احتجاجات الأول من تشرين الأول وتداعياتها المستمرة.
لست أريد الدخول في التأريخ، بيدَ أن توثيقيات العقود الأربعة الأخيرة من التأريخ السياسي لبلدنا، والثابت المتفق عليه من وقائعه، تكشف أن المحورية هي واحدة من مشكلات العراق المدمرة، وسبب من أهم أسباب نكباته، وان السقوط في سياسة المحاور لم يجلب للبلد وشعبه إلا الدمار، بدءاً من الحروب والحصار، وتبديد ثرواته وتنعّم الآخرين بها، على حساب تخلفه وحرمان أهله وشعبه وناسه، انتهاءً بمعاناته الآن، ما يدعونا لضرورة البحث عن خيار ثالث، يبعد كل البعد عن منطق؛ أن نكون مع هذا المحور أو ذاك!