جمعية الشعار وفرديته

آراء 2019/12/06
...

حسين السلمان
 
كلّ الشعارات في مجمل الحياة العامة ومنها الحياة السياسية تحتاج إلى جهد منهجي مصحوبا بادراك وتأمّل فنونها البلاغية ودلالاتها ووظائفها التعبيرية والتواصلية.
واليوم ونحن وسط زخم هائل من أشكال متنوعة ومتغيرة من الاحتجاجات وشعاراتها التي استطاعت عبر مرحلة، أو فترة قصيرة، من تطورها أن تفرز العديد من الشعارات التي تتناسب، إيجابيا، مع الفهم الجديد للواقع السياسي العراقي الراهن. إنّ غالبية الشعارات التي تقدمها عموم ساحات الاحتجاج في البلاد، وهي ظاهرة شمولية وليست وليدة منطقة معينة، فإنّها تحمل في دواخلها أصداء ارتدادية طبقا لقوة التأثير التي تحملها في ثنايا معانيها المستترة والظاهرة في آن واحد، وكذلك ما تحمله من سعة الترويج لها، فضلا عن مديات نضجها وقدرتها الوظيفية على تقديم ما هو مثير ومدهش وقادر على أن يترك أثرا فاعلا، سواء في ذات الجمهور الذي انطلقت منه الشعارات، وهو المؤيد لها، أو الجهة المرسل إليها، وهي الجهة المستهدفة التي يراد تنبيهها وإعلامها ما تضمره هذه الشعارات من أهداف يمكن أن تكون أهدافا تطبيقية في مرحلة مقبلة، وقد تتخذ أشكالا أخرى لا يمكن لها الآن البوح بها علنا متمثلا بعدد من الشعارات، وهذا واحد منها وهو: (جيل البوبجي فلش كراسيهم ..) وهنا، مع هذا الشعار وشعارات أخرى مقاربة، يمكن أن نطلق عليها تسمية (شعارات اعتراضية) وأكثر ما يمثلها هو هذا الشعار الذي يتميز بخصائص فريدة من نوعها من الإصرار والديمومة، والأهم هو الروح المتفائلة التي يتسم بها (ما نموت.. ننحصد الأربعاء.. نخضّر براس
 الخميس ..).
 
ماهيَّة الشعار
دائما ما نجد أن الشعار يتخذ صفة نمطية في حالتين أساسيتين في كل أنساق حياته وهما صفة التواصلية وصفة التعبيرية، فضلا عن أنه يحمل في جوهره صفة معرفية تعمل وتسهم في إنضاجه وتقديمه عبر طرق تختلف باختلاف الأفكار التي يحملها والشكل الذي يقدم به، فمنها ما يأتي على شكل سؤال، أو يقدم على شكل فرضية معينة لحالة سياسية أو اجتماعية، أو أنه يطرح بطريقة استفزازية أو طريقة تشجيعية تعمل على شحذ الهمم والعزائم. لذا فإنّ كلّ مضامين الخطاب الاحتجاجي تعمل على بلورة وعي وطني داخل الجمهور المحتج، سواء كان هذا الجمهور هو الذي يصوغها ــ أي هو المنتج لها، أو هو من يقوم بالترويج لها لأنّها تعمل على تقوية وتمتين أهدافه وطموحاته والعمل على
 ترسيخها.
من هذا كله يمكن أن نفهم شعار (نريد وطن) الذي يتقدم عبر السؤال الأول وهو لماذا جاء بصيغة الجمع وليس بصيغة المفرد. وهو طرح متقدم في الفهم والوعي منح الشعار أهمية كبرى متحولا إلى صرخة شعب. هذا الشعار تقدم بمرحلتين.
المرحلة الأولى كانت مرحلة منطوقة، فأغلب اللقاءات مع الناشطين كانت تردد هذا الشعار الذي يعد شعارا مركزيا ومن الدرجة الأولى، وفي المرحلة الثانية انتقل الشعار إلى شعار مكتوب، وقد كتبه الكثير على أجسادهم، على ظهورهم وعلى صدورهم. إذن هو شعار حياة بكاملها وقد اتخذ القرار النهائي والمطلق، بمعنى أنّه الشعار المركزي الذي سنرى فيما بعد تنطلق منه الشعارات الأخرى، بما فيها المطاليب الجماهيرية الأساس التي تنطلق منه وتنتمي إليه.
 
قوة الشعار 
إنّ هذا الشعار في حقيقته يعد تطورا معرفيا لكل شعارات الاحتجاج الأخرى بحكم قوته الاقتناعية وسياقاتها الاعتراضية. لقد أحدث هذا الشعار (نريد وطن) انعطافة مهمة في عدة جوانب منها الجانب الإعلامي إذ أصبح منصة كبرى فتحت المجالات الواسعة للمحتجين في الظهور والتحدث في القنوات الفضائية، فأصبح هذا الشعار هو المدخل والخاتمة الجميلة لكل المطاليب التي تريدها ساحات الاحتجاج، حتى أن البعض منهم أصبح محط اهتمام القنوات العربية والعالمية لما يقدمه من آراء ناضجة دفعت بالشعار لأن يحتل مركز الصدارة في كل المطاليب بحكم كونه شعارا إنسانيا كبيرا متميزا عن كل الشعارات التي رفعت في العديد من البلدان التي حدثت فيها هكذا احتجاجات. وهذه واحدة من خصوصية الشعار القادر على عبور مسافات واسعة من الفهم والإدراك بما يحمله من دلالات مهمة للغاية إذ تمّ تنظيم كلمة (نحن) وإعطاؤها الصيغة الشموليّة، وهذا دليل منطقي لجمعية احتجاجات تشرين وكأنّه يقول : أنت في ساحاتك ..
وطن يصرخ ...