الديمقراطيَّة.. مسيرٌ الى الأمام

بانوراما 2019/12/06
...

بانكاج ميشرا
ترجمة: ليندا أدور
تكشف الاحتجاجات الجماهيرية التي بدأت تغزو البلدان الواحد تلو الآخر عن مدى قوة المطالبات بتحقيق العدالة الاجتماعية.
في معظمم أنحاء العالم، من هونغ كونغ الى الاكوادور، من السودان الى العراق، ملأ المحتجون الغاضبون شوارع المدن والساحات، يصطدمون مع الشرطة، يحطمون المحال ويحرقون الاطارات، لا يمتلكون زعامة واضحة، ومع ذلك، حتى في لبنان الذي يعاني التقسيم الطائفي، بدا وكأن متظاهريه قد أتحدوا ضد الحكومات، إذ سبق وان أطاحت تلك الاحتجاجات بثلاثة رؤوس كبيرة لقادة في كل من السودان والجزائر ولبنان.
 
مشاعر اجتماعيَّة ومطلب ثوري
قد تختلف دوافع المحتجين الآنية، ففي لبنان، ساد الغضب الشعبي بعد فرض ضريبة مقترحة على مكالمات خدمة الواتساب، وكان سبب تظاهرات تشيلي هو زيادة أسعار المترو، لكن، بوجه عام، تنامت حالة عدم المساواة المستمرة بجميع هذه البلدان وبشكل لا يحتمل، وبخاصة بين الشباب من العاطلين عن العمل أو من أسيء استغلال مهارتهم، على خلفية تباطؤ الاقتصاد العالمي. إن كان من الصعب تحديد سبب واحد وراء تلك الاحتجاجات المتزامنة، فمن المحتمل أنها ستبدد أسطورة واحدة، اذ لم تندلع الاضطرابات بسبب "توقف توسع الديمقراطية عالميا" كما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز مؤخرا. 
تدين مثل هذه التقييمات بالكثير الى الفكرة المحافظة للديمقراطية. مدعومة من قبل مؤسسات الحرب الباردة مثل بيت الحرية Freedom House ، فان هذه الفكرة تخلط ما بين الديمقراطية والانتخابات وغيرها من الأمور الاجرائية، وقد فشلت في فهم ان الديمقراطية، قبل كل شيء، هي مشاعر اجتماعية ومطلب ثوري، بالفعل، من أجل المساواة والكرامة، فما حصل في الغرب بحلول القرن العشرين، أنهى الآلاف من سنوات حكم الملوك والطبقة الاقطاعية المالكة للأرض.
تنبأ المحلل الأكثر حدة تجاه ديمقراطية "الكسيس دو توكفيل" بأن ذلك هو المصير المحتوم لجميع المجتمعات، بصرف النظر عن عمق التسلسل الهرمي. كان دو توكفيل واضحا بأن "بتدمير الملكية والارستقراطية"، فإن الديمقراطية لن "تتوقف أمام البرجوازية والاغنياء".
 
العصر الديمقراطي
من المؤكد، أن البرجوازيين الاوروبين وأغنياء القرن التاسع عشر انفقوا الكثير من الطاقات ضمن محاولات احتواء الديمقراطية، والإبقاء على الناس العاديين، وبخاصة الطبقات الصناعية العاملة والنساء، في أماكنهم. كتب ولتر باجوت، محرر صحيفة الايكونوميست المعروف، عن "ما هي السندات المالية التي يمكن أن نخلقها ضد الديمقراطية"، حيث تمت مناقشة حق الانتخاب على نطاق أشمل الى ما بعد الطبقات المالكة، الى جانب تقديم ضمانات اجتماعية للطبقة الفقيرة الكادحة.
لكن صدمة سياسية تلو أخرى أظهرت، كما ورد على لسان دو توكفيل، ان الأشخاص في العصر الديمقراطي "لديهم حماسة متقدة ونهمة ولا متناهية ومنيعة" حيال المساواة وبأنهم سيتحملون الفقر والعبودية والهمجية، لكنهم لن يتحملوا الارستقراطية"، ويبدو هذا التعصب جليا في الثورات المعادية للنخب في الغرب، هذه الايام، حتى انه أكثر وضوحا في عالم ما بعد الاستعمار، الذي منذ الربيع العربي، احتضن أكبر الانتفاضات الشعبية في العالم.
بإمكان اولئك الذين تخطوا سن الاربعين، استذكار ما حدث ذات مرة في آسيا وافريقيا، عندما كان الاحترام الشديد، ان لم يكن الخوف، هو ما يميز العلاقة بين الحكام والمحكومين من الاغنياء والفقراء، والطبقات العليا والشعبية والطوائف. وهكذا ونتيجة لثقتهم بحصانتهم، أفلت الاثرياء والمتنفذون من التعرض للقتل. 
هناك مجاميع صغيرة من النخبة، اقدمت على سرقة خزائن الدولة لتتباهى بها في لندن ونيويورك وباريس، ليعززوا بها أرباح وكلاء عقارات هارودز وبلومينغديلز، ناهيك عن منظمي الحفلات وخدمات المرافقات الفاتنة.
 
تمكين الديماغوجيين
كتذكير عن تلك الأوقات الجميلة لأسر سوهارتو وبوتو ومبارك، من العالم الثالث، هو ما قام به، اليوم، رئيس الوزراء اللبناني المستقيل، سعد الحريري، الذي يُزعم أنه قدم هدية بقيمة 16 مليون دولار اميركي لعارضة ازياء بلباس البحر (البكيني) التقاها بمنتجع فخم في سيشيل. حتى في الهند، التي يفترض ان ينظر اليها على انها من أكبر ديمقراطيات العالم، هيمنت عائلة واحدة على مقاليد السياسة طيلة عقود، وضمت اليها عددا قليلا ضمن شبكة المحاباة الخاصة بها، واستبعدت اعداد اخرى لا حصر لها. وبالمقابل، يعجب زائروها من الإحجام اللامتناهي لملايين المسحوقين والمعدمين فيها عن التمرد ضدها، ما يثير تساؤلا: لِمَ لم يثوروا ضد أسيادهم القساة؟
في النهاية بدأت، أخيرا، التسلسلات الهرمية الاجتماعية بالتصدع أسرع من عقد التسعينيات من القرن الماضي، مع ما رافقها من اتساع التسييس وتنامي المعرفة، وانتشار القنوات التلفزيونية الفضائية ووسائل الاعلام الرقمية. فكانت الاحتجاجات الكبرى التي عمت شوارع الهند في العام 2011 ضد فساد النخبة الحاكمة، وكانت تلك أولى العلامات بأن كلا من المجتمع الهندي والسياسة على حافة تحول جذري.
لقد مهدت تلك الاحتجاجات الطريق لناريندرا مودي، الذي تسلق السلطة من خلال شجبه للرشوة وسلالة الحكم الفاسدة، زاعما بأنه سيكون ممثلا لضحاياها. 
وعلى ذات الشاكلة، مهدت الاضطرابات الاجتماعية الكبرى ضد ارتفاع تعرفة الحافلات في البرازيل لوصول جايير بولسونارو.
لا يوجد ما يؤكد ضمان ان الانتفاضات الحالية ضد النخب الحاكمة لن تعمل على تمكين الديماغوجيين (الغوغائيين)، ففي أوروبا أواخر القرن التاسع عشر، اختطفت الحركات اليمينية المتطرفة والمعادية للسامية المطالبة بالديمقراطية، مهمشة الاحزاب اليسارية والليبرالية.
أصبح التحدي العملي، الآن بذات القدر الذي كان في حينه، هو كيفية جعل الديمقراطية الجماهيرية تتلائم مع الحرية الفردية، وكيف يمكن ايجاد مؤسسات سياسية واقتصادية قادرة على نشر الطاقة الهائلة للحشد المجتمعي من أجل خير أشمل وأعم. وفي الوقت ذاته، علينا أن نتصدى لفكرة أن الديمقراطية تشهد تراجعا، حيث كانت الديمقراطية تعني أن الشعب هو الحاكم، ويطالب بالمساواة الاجتماعية، عندها نكون قد شهدنا على ازدهارها في أكثر أجزاء العالم اكتظاظا 
بالسكان.