شيّد جدار برلين خلال العام 1961 لايقاف الهجرة من الجزء الشرقي الشيوعي لألمانيا المقسمة الى الجزء الغربي الأكثر ازدهارا. وقد هاجر أكثر من مليونين ونصف مليون ألماني شرقي من مجموع 17 مليون نسمة بين العامين 1941 و1961. وكان الكثير من المهاجرين هم من أصحاب الاختصاصات، ومن ثم كانت خسارتهم محسوسة داخل جمهورية ألمانيا الديمقراطية، كما كانت تسمى. ونتيجة لذلك، قررت الحكومة الشيوعية اغلاق حدودها بالكامل فقد اصبحت آنذاك على حافة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وشيدت الجدار بين عشية وضحاها يوم 13 آب 1961. وكانت السلطات الشرقية تشير إليه ببعبارة ’حاجز الحماية المضاد للفاشية‘.
كان الجدار الكونكريتي مكونا من 300 برج مراقبة عبر فترات فاصلة ومنتظمة، وبلغ طوله نحو 160 كم وارتفاعه نحو أربعة أمتار، وكانت بدايته عبارة عن حواجز مؤقتة من الأسلاك الشائكة.
وقد اختير يوم 13 آب 1961 للبدء بتنفيذه عمدا، لأنه يوم أحد خلال عطلات الصيف. واستبدلت الأسلاك الشائكة مع مرور الأسابيع بألواح كونكريتية عمودية معززة بقضبان حديد وكتل جوفاء.
لم يسمح لأي شيء بالوقوف بطريق الجدار. فالمنازل المطلة على شوارع مثل "بيرناور شتراسه" إذ كانت الأرصفة في الجانب الغربي وخلفيات المنازل بالشرق أصبحت جميعها جزءا من بناء خط الحدود. وأصدرت السلطات أمرا بتغطية المداخل والنوافذ بالقرميد، وكانت هناك حالات موثقة لأشخاص قفزوا من النوافذ لتجنب حجزهم في الشرق داخل منازلهم.
الجدار نفسه مجرد حد خارجي، ووقع خلفه ما يسمى "شريط الموت" ويحوي خنادق مضادة للسيارات وألواح مسامير وتجهيزات دفاعية أخرى. وشق خنادق حدودية ملئت بالمياه لمنع اجتباز الحدود ، وضعت آليات دفاعية مشابهة لمنع هروب أي شخص.
محاولات جريئة
ونتيجة لذلك كله، لقي 138 شخصا في الأقل حتفهم أثناء محاولة الهروب عبر الجدار، فيما تمكن خمسة آلاف شخص من الفرار، مع أن الرقمين محل جدال. وكان من ينجح بالهروب يختبئ في سيارة أو يتسلل بين نقاط حدودية أو بصهاريج عبر التحصينات ومنهم من اجتاز قناة تيلتو ونهر سبري سباحة أو زحف عبر أنفاق، وخصوصا تلك التي شيدتها فرق المتطوعين. ومن بين أشهر المحاولات كانت لبهلوان سيرك مشى عبر خط طاقة مهجور الى الغرب مما تسبب بكسر ذراعيه.
سلط خريف الانتفاضات السياسية عام 1989 ضغطا على حكومة ألمانيا الشرقية لتخفيف قيود السفر، وبحلول الصباح الباكر ليوم 9 تشرين الثاني أخبر متحدث باسم الحكومة في مؤتمر صحفي بان الألمان الشرقيين أحرار في السفر الى ألمانيا الغربية، وعندما سأله الصحفيون: متى؟ تردد بالإجابة، لكنه أصاب الجميع بالصدمة والذهول عندما قال: "فورا!!"
فور اعلان وسائل الاعلام الغربية فتح الحدود، بدأ الناس بالتجمع بأعداد كبيرة عند نقاط التفتيش على كلا الجانبين. وسقطت أولى قطع الجدار يوم 11 تشرين الثاني، كما أحدث الناس فجوة بجزء من الجدار كان يقتطع بوابة براندنبيرغ يوم 10 تشرين الثاني، لكنه أغلق مجددا من قبل سلطات ألمانيا الشرقية، ولم يسقط الجدار تماما حتى 22 كانون الأول.
بدأت السلطات بإزالة قطع من الجدار باستخدام رافعات وعجلات بناء خلال الأيام التي أعقبت 9 تشرين الثاني، بهدف خلق نقاط عبور اضافية بين الشرق والغرب، واستولى "نقارو الجدار" على قطع من الجدار بواسطة المطارق والأزاميل.
قام مواطنون لاحقا بتأجير المطارق، واستمر سماع صوتها وهي تدق الكونكريت المقوى بالحديد لبضعة أشهر. وبقيت أجزاء الجدار في مكانها واستغرق الأمر أكثر من عامين لازالة الغالبية العظمى منها، اذ لم يبدأ برنامج الهدم الرسمي إلا بحلول صيف 1990.
بقايا الجدار
لم تكن هناك رغبة كبيرة في بادئ الأمر بابقاء أي من أجزاء الجدار داخل برلين، لكن بعد سنوات قليلة بدأ الناس بالحديث عن ضرورة بناء ثقافة الذاكرة وتشمل إعادة كتل منه ووضعها في أسس جديدة.
يمكن العثور على قطع أصلية داخل معرض الجانب الشرقي من برلين وحديقة ماوربارك وبرج مراقبة شليسيشر بوش وساحة بوتسدامر ومقبرة سانت هيدفيغ وشارع بوسبروك بورنهولمر ونصب تذكاري لجدار برلين ومتحف بجوار المقر السابق للشرطة السرية النازية ونقطة تفتيش تشارلي وهي أشهر معبر حدودي سيطرت عليه قوات أميركية، لكنه نصب مليء بالقمامة حاليا.
نقلت مئات القطع من الجدار الى أكثر من 50 دولة، ومعظمها قطع تذكارية وأعمال تضامن وصداقة لكنها تعرض أحيانا في مزادات علنية. ويمكن ايجاد قطع الجدار على الحدود بين الكوريتين ومحطة قطار موناكو ولاس فيغاس وريكيافيك عاصمة آيسلندا.
شقت بعض القطع طريقها عبر البحار بطرق مثيرة للاهتمام، فقد وصلت إحداها الى كينغستون عاصمة جامايكا بعد اهدائها الى العداء أوسين بولت عقب تحطيم رقمه القياسي بالركض لمسافة 100 متر سنة 2009، وظهرت أخرى في مدينة كيب تاون بعد أن اختارها نلسون مانديلا.
حطمت أجزاء كبيرة من الجدار واستخدمت لبناء الطرق، كما استخدمت لاحقا ألواح منه لبناء المنازل. ولا يزال بيع قطع منه مستمرا بدور المزادات، أما القطع المشكوك فيها فترسل الى المكتب الاتحادي لسيطرة المواد من أجل التحقق منها.
تحول موقع الجدار بطرق مختلفة الى طريق للدراجات الهوائية ومكان للمشاريع العقارية وجدال قانوني بشأن رفض مالكي فيلا وصول الجمهور الى طريق محاذي لبحيرة. ويقول بيرند انغمار غوتبرليت وهو عالم آثار الجدار أن آثاره موجودة في كل مكان اذا عرف الشخص أين يبحث. من بين اكتشافات بيرند جزء من الجداروقد اندمج مع سور حديقة لرياض الأطفال. ويقول كلما اتجهنا الى ضواحي برلين ستزداد فرصة ايجاد دليل، ويرغب بتشجيع الناس على فعل الأمر ذاته.
صحيفة الغارديان البريطانية