عبد الحليم الرهيمي
منذ اليوم الاول لانطلاق حركة الاحتجاجات في الاول من تشرين الاول/ اكتوبر رفع المحتجون والمتصدرون للحراك من الناشطين شعار سلميّة.. سلمية، وفي مواجهة اعمال العنف ورصاص القناصين تمسكوا باصرار بهذا الشعار، وحينما تصاعدت اعمال العنف ضدهم بالقنص والرصاص الحي والقنابل الدخانية والصوتية المميتة لم يدفعهم ذلك الى الانجراء لاستخدام العنف المضاد، إنّما ازدادوا إصراراً على شعارهم الأثير وأضافوا اليه أيضاً، لا عنفيّة ليصبح: سلمية.. سلمية لاعنفية.
اما عندما بدأت أعمال التخريب والحرائق للمحال في شارع الرشيد والسنك ووجهت لهم الاتهامات بمسؤوليتهم عن ذلك من بعض اطراف السلطة ومن (الطرف الثالث) المجهول – المعلوم والذي اصبح يطلق عليه (ابو جهل) فقد نفوا بسلوكهم وتأكيدات النشطاء منهم براءتهم من تلك التهم التي تريد شيطنتهم وتبرير استخدام العنف المفرط ضدهم وقتلهم واصبح شعارهم: سلمية .. سلمية ، لاعنفيّة، لا تخريبيّة. وعندما كررت المرجعية الدينية ادانتها الحازمة لقتل المحتجين وطالبت بكشف القتلة واحالتهم الى القضاء وادانت في الوقت نفسه اعمال التخريب، اكدت حركة الاحتجاجات بقوة وحزم عدم مسؤوليتها عن ذلك وأنها ليست المقصودة بما اشارت اليه المرجعية، غير ان بعض اوساط الطبقة السياسية و(الطرف الثالث) وجنود الجيوش الالكترونية عمدوا للاستمرار في توجيه الاتهامات للمحتجين واجتزاء اقوال المرجعية وانتقاء ما يناسبهم والترويج له بشكل لافت حتى أن هاشتكات وسائلهم الاعلامية وفضائياتهم لا تتحدث الا عن بعض ما قالته المرجعية، بادانة اعمال التخريب بقصدية واضحة منهم وإيحاء ضد حركة الاحتجاجات. قد عبرت حركة الاحتجاجات وناشطوها الذين يظهرون في الاعلام عن رفضهم المطلق لتلك الاتهامات وتمسكهم بالسلمية واللاعنفية واللاتخريبية، وكذلك تحملهم للعنف المفرط والقتل الموجه ضدهم بصبر وحلم كبيرين ونادرين من التمسك بهذه المواقف والاعتراف في الوقت نفسه بأن ثمّة عناصر مندسة بينهم واخرى من افراد متظاهرين حقاً لكنهم حمقى ومراهقون يتصرفون بردود افعال غاضبة ولا يلتزمون بمواقف الاكثرية الساحقة للمحتجين الداعية للسلمية واللاعنفية واللاتخريبية.
إنّ هذه المواقف الوطنية المسؤولة والحريصة على سلمية حركة الاحتجاج والتمسّك باهدافها وشعاراتها التي انطلقت من اجلها بصبر وتحمل كبيرين انما يشير الى واحدة مهمة من صفات ودلالات هذه الحركة ومضمونها واهميتها، ذلك ان التمسك والاصرار على شعاراتها السلمية، وعدم الانجرار للرد على العنف المفرط الموجه ضدهم بعنف مضاد او التراجع عن مواقفهم وسلوكياتهم السلمية التي رافقتهم منذ انطلاق هذه الاجتجاجات، انما يشير بوضوح الى عدد من الاستنتاجات المهمة التي تعني.
انها تشكل رؤية سياسية وفكرية متقدمة للغالبية العظمى لجماهير الحراك والقائمين عليه ونشطائه تتجلى في الاعتقاد بان العنف والعنف المضاد يبدد فرص تحقيق اهداف حركة الاحتجاجات وهو ما تسعى اليه بكل قوة الطبقة السياسية الممسكة بزمام السلطة.
وتتجلى كذلك بالاعتقاد بضرورة القطع وعدم اللجوء الى الصراعات الدموية التي اتسم بها تاريخ العراق المعاصر، على الاقل، بدءاً من 14 تموز عام 1958 والتمسك بدلاً من ذلك بالصراع والحل السلمي للخلافات او السعي لتحقيق التغييرات الاصلاحية في انظمة الحكم والمجتمع. وهذا كله يعني ان الرؤية والحلول السلمية للصراعات السياسية والاجتماعية ستشكل ثقافة وطنية وانسانية متطورة يحتاج اليها، اكثر ما يحتاج، المجتمع العراقي الذي خبر نتائج الصراعات العنفية والدموية وعانى منها. وبالطبع، فإنّ مثل هذه الثقافة التي تتبلور ملامحها الأولية في حركة الاحتجاجات الراهنة ستشكل احد الشروط الاساسية المهمة والقاعدة الضرورية لبناء الدولة الديمقراطية الحقيقية العادلة والرشيدة بعد انتصار حركة الاحتجاجات والبدء بتحقيق اهداف المحتجين التي ضحوا من اجلها بسخاء نادر وهي اعادة الحقوق التي سلبت منهم وكذلك اعادة الوطن الذي يريدون والكرامة بدولة تحكمها المؤسسات وانفاذ القوانين على الجميع، دولة ديمقراطية عادلة وراشدة حقاً لا دولة (حضارية) غامضة وكاذبة تلتف على العدالة والرشد.. هذا ما يأمله جميع العراقيين وفي طليعتهم المحتجون المضحون في ساحات الاحتجاج والاعتصام
الوطنية.