في المحال التجارية المترفة الضخمة، يعلن رودولف، غزال رنة بأنف أحمر، مدوّياً باللغة الأسبانية عبر مكبر للصوت مع تحرّك الفنزويليين مبكراً لفترة تسوّق استعداد لموسم أعياد الميلاد.
وتتعدد هنا العلامات التجارية الراقية ضمن منافذ البيع؛ ولأجل شرائها، ينفق الناس ما يملكونه من دولارات أميركيَّة. يقول فيليب تويستا، مع انتظاره لدوره لدفع ما عليه: "أنا أشتري اليوم كنزة لشقيقتي وقميصاً وسروال جينز لي، كلها مسعّرة بالدولار، وأنا لا أملك إلا القليل من الدولارات التي وردتني من أحد أقاربي المقيم خارج البلاد".
ورغم عقدين من مواجهة أميركية شديدة للحزب الحاكم في فنزويلا، والجهود الحثيثة لنقل محاور اقتصاد البلاد بعيداً عن الولايات المتحدة وتوجيهها صوب روسيا والصين، يعدُّ الدولار جزءاً متنامياً من نسيج الحياة العامة الفنزويليَّة. وتنازل الرئيس نيكولاس مادورو بشكل كبير خلال شهر تشرين الثاني الماضي عندما تغنى بمديح عملية الدولرة (مصطلح يعني الهروب من العملة المحلية التي تعاني من فقدان وظائفها الأساسية واللجوء للتعامل بالدولار الأميركي كملاذٍ آمن لتخزين واكتناز القيمة- المترجم) خلال لقاء مع إحدى المحطات التلفزيونية المحلية: "هذه العملية التي يسمونها الدولرة بمقدورها أنْ تكون نافعة لتعافي القوى المنتجة وإطلاق أعمالها بغية تسيير عجلة الاقتصاد. إنها بمثابة صمام تهريب، ونحمد القدير لوجود مثل هذا التدبير"، يقول مادورو.
وعادة ما ينظر الزعيم الاشتراكي الفنزويلي بسخط لأي شيء يأتي من الولايات المتحدة، وسبق أنْ اتخذ عدة خطوات لـ"تحرير" اقتصاد بلاده من الدولار الأميركي، من خلال احتضان اليورو وعملة رنمينبي الصينية، وعملة البلاد المعوّمة، البيترو. غير أنَّ تعليقات مادورو تعكس حقيقة متنامية داخل فنزويلا مع تسارع الانحدار الاقتصادي للبلاد؛ وما على المرء هذه الأيام إلا التوجه صوب العديد من المحال التجارية في كاراكاس، لينفق ما يسعه من دولارات.
سيادة الدولار
تقول جنيفر بوغرين، مالكة متجر لبيع ملابس الأطفال في أحد مولات العاصمة: "يمكنني القول إنَّ نحو 70 بالمئة من مبيعاتنا حالياً تدفع بالدولار. بدأ الأمر يشهد زخماً حقيقياً منذ منتصف هذا العام، بينما يستخدم قلة من الناس اليورو، لكن لا يوجد أي أحد تقريباً يشتري منا بالعملة الوطنيَّة، البوليفار". ووجدت دراسة حديثة أجرتها شركة استشارات محلية، اسمها (ايكواناليتيكا) أنَّ أكثر من نصف جميع الأعمال التجارية المالية في فنزويلا يتم دفعها بالعملات الأجنبيَّة، وبشكل رئيس بالدولار. ويصل حجم التعامل بالعملات الأجنبية في ثاني أكبر مدينة فنزويلية، ماراكايبو، القريبة من الحدود مع كولومبيا، الى 86 بالمئة. ويستخدم الفنزويليون الدولار حين شرائهم لسلع أسعارها مرتفعة، مثل الاجهزة المنزلية، لكنَّ التعامل به يزداد في مواد التعامل اليومي، فأكثر من نصف مبيعات المواد الغذائية تتم بالدولار، وفقاً للدراسة. هذه الحال هي نتيجة لما يحصل من تضخّم، فلا أحد يرغب بحمل كيسٍ كبيرٍ من العملة المحليَّة لدفع ثمن فنجان قهوة أو وجبة خفيفة، ومن الأسهل تماماً استخدام الدولارات.
وحتى بعد أنْ حذفت الحكومة خمسة أصفار من العملة، وأصدرت كميات هائلة من الأوراق المالية الجديدة العام الماضي، بقي البوليفار ذا قيمة قليلة للغاية، فأكبر ورقة نقدية يتم التداول بها تبلغ خمسين ألف بوليفار، وهي تعادل 1,6 دولار، أما الأقل قيمة فلا تساوي إلا جزءاً بسيطاً من السنت. وبالذهاب الى ماكنة الصراف الآلي، لا يمكن سحب أكثر من كمية تعادل عشر سنتات أميركيَّة، وحتى عندما يدفع الفنزويليون بالعملة المحلية، فهم يفعلون ذلك بواسطة بطاقة الائتمان، فالاقتصاد يشهد حالة متزايدة من قلة التعامل بالأوراق النقديَّة. أما ستيف هانك، خبير التضخّم في جامعة جون هوبكنز، فيقول إنَّ معدل التضخّم السنوي لفنزويلا يصل الى نحو عشرة آلاف بالمئة، والبلاد تقاسي من ثالث أطول فترة تضخّم مالي مسجل عالمياً، بعد نيكاراغوا خلال أواخر عقد الثمانينيات، واليونان خلال الحرب العالمية الثانية. ويتوقع صندوق النقد الدولي وصول نسبة التضخّم الى عشرين ألفاً هذه السنة، و500 ألف للسنة القادمة.
منافذ محدودة
وتعدُّ الدولرة أيضاً نتيجة للإجراءات الاقتصادية الأخيرة المتّخذة من قبل الحكومة، فلغاية هذا العام، لم يكن بالإمكان شراء العملة الأميركية بشكل قانوني إلا من خلال المزادات الحكومية فقط، أما حالياً فيمكن الحصول على الدولارات من محال الصيرفة، رغم عدم توفرها بكميات كبيرة. وشددت الحكومة مستلزمات الاحتياطي القانوني للمصارف، مصعّبة عليهم إجراءات منح القروض، ما دفع الفنزويليين للبحث عن النقد في أماكن أخرى، وأحياناً بالعملات الأجنبيَّة. وتمثل التحويلات الماليَّة أحد العوامل المهمة، فقد غادر البلاد أكثر من أربعة ملايين مواطن بسبب الانهيار الاقتصادي خلال السنين الأخيرة، والكثير منهم يرسل المال الى الديار، عادة بالدولار؛ ويشير أكثر من نصف سكان ماراكايبو الى تلقيهم المال من الخارج. ويقول خبراء الاقتصاد إنَّ السبب الأخير يكمن في الانقطاعات الكهربائية المزمنة التي اجتاحت البلاد، لتغذي حالة الدولرة، فعندما تنقطع الكهرباء، سيكون من غير الممكن استخدام بطاقات الائتمان لإجراء التعاملات المالية، وبالتالي أرغم الناس على العودة الى الأوراق المالية، والدولار أكثر عملية من البوليفار.
ولكنْ بينما يصف مادورو الدولرة غير الرسمية كونها تمثل "صمام تهريب"، يصر الاقتصاديون أنها ليست ترياقاً شافياً للاقتصاد، الذي انخفض حجمه الى النصف منذ تولي مادورو السلطة سنة 2013. يقول اسدروبال اوليفيروس، مدير ايكوناناليتيكا: "لأنه بمجرّد أنَّ التعامل بالدولار متواصل فهذا لا يعني تحسن الحالة الاقتصادية، ولا زيادة للقدرات الشرائيَّة للمواطنين".
أما فرانسيسكو رودريغوز، الاقتصادي الفنزويلي المقيم في الولايات المتحدة، فيقول إنَّه يفضل تبنياً رسمياً للدولار، مجادلاً أن "دولرة مادورو تعدُّ غير منتظمة بشكل هائل، وتضر بالناس الذين ما زالوا يكسبون قوتهم بالعملة المحليَّة".
مجلة أوزي الأميركيَّة