التربية وثقافة الاحتجاج

آراء 2019/12/14
...

 أماني النداوي
 
    يتربى الأبناء عادة في ظل رعاية أسريّة تقوم على طاعة الوالدين وتلقي التوجيهات منهما بشأن المواقف الحياتية المختلفة، وليس ثمة شك في أن الأسرة تمثل المؤسسة الاجتماعية الأولى التي ترسخ القيم التربوية والأخلاقية وتغرسها في نفوس الأبناء، ثم يأتي دور المؤسسة التربوية التي تمنح الناشئة الخبرات المعرفية والمعلوماتية والعلمية الدراسية الى جانب تعزيز القيم التربوية الشخصية، وفي ظل عالم منفتح ومتواصل بدون قيود أصبح هناك ارتفاع في الوعي والنضج المبكر لدى أغلب الاطفال الذين اندمجوا في طوفان (ثورة المعلومات) وتقنياتها الجديدة، وبالأخص الهواتف الذكية وتطبيقاتها التفاعلية
 المتعددة.
     إنّ من أبرز ملامح شخصية الشباب اليوم تزايد حس الشعور والمشاركة في الرأي العام والفهم والاهتمام بالقضايا السياسية والاجتماعية والصراعات والاحتجاجات التي تشهدها أغلب بلدان العالم التي تسعى الى التغيير وبناء المستقبل، الذي سيكون ناشئة اليوم قادته في الغد، وخلال الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها دول عربية عدة، ومن ضمنها العراق، طُرح تساؤل أخلاقي وتربوي يدور حول مشروعية مشاركة الأحداث في التظاهرات وأسباب زجهم في الصراعات التي يثيرها عادة جيل آبائهم، وهل من المسموح قانوناً ان يترك التلاميذ مقاعد الدراسة، ويفتحون أبواب مدارسهم وينزلون الى الشارع الذي تحيطه الكثير من المخاطر التي تهدد حياتهم، فضلاً عن التضحية بتحصيلهم الدراسي؟!        نحن أمام ظاهرة تربوية قبل أن تكون سياسية أو قانونية، لا بدّ ان تفتح باب الحديث حول بناء شخصية الطفل من قبل الأسرة والمدرسة على أساس تنمية الحس الأخلاقي والرؤية الناقدة والقدرة على الاحتجاج في المواقف التي تمثل انتهاكاً لمعايير الكرامة وحقوق الانسان، وكيفية تشجيع الأطفال على المطالبة بحقوقهم المشروعة بطريقة حضارية وتطوير مواهبهم القيادية لأنّهم سيكونون بناة المستقبل والناشطين الفاعلين في صناعة الغد الأفضل. 
إنّ مفهوم الطاعة الواعية وتنمية ثقافة النقد والاحتجاج البنّاء تسهم في تكوين شخصية قادرة على التمييز بين الحق والباطل والانحياز الى جانب الحقيقة والصدق والكرامة، وهنا يبرز دور الأسرة في الاستماع الى صوت الأبناء دائماً والحوار معهم بدلاً من إصدار الأوامر الصارمة أو التجاهل والاستصغار وكبت الآراء، وبدون شك ان هذا التعامل السلبي سوف يولد عقداً نفسية وضعفاً في الشخصية يرافق الأولاد طوال مسيرة حياتهم!
     نعود الى قضية مشاركة الأحداث في التظاهرات، وهل هي مشروعة أم غير مشروعة؟.. وهل يمكن تنظيمها دون وقوع مخاطر تهدد حياتهم خارج المدارس، عندما ينخرطون في التظاهرات التي يشهدها الشارع، سواء بحضور المعلمين أم غيابهم؟!
     لا شكّ أنّ الإجابة تقتضي مراجعة القوانين والتعليمات المدرسية والجامعية التي تمنع، في الأغلب، فتح أبواب المؤسسات التربوية والتعليمية أمام التيارات السياسية المتصارعة وتدخلاتها وتأثيراتها، ويمكن بدلاً من الصبغة السياسية غير المرغوبة، تنظيم وتوجيه الناشئة حول كيفية الاحتجاج من خلال فعاليات تربوية وأخلاقية في داخل المدارس وليس خارجها، وذلك في ظل إشراف المعلمين والمدرسين من خلال تنظيم المهرجانات الشعرية والفنية وإطلاق منصات للمواهب واحتضان فعاليات حوارية ناقدة وتوعوية حول مختلف القضايا السياسية والاجتماعية وإضفاء لمسات ابداعية تسهم في تنمية وتطوير مهارات الأطفال والاستفادة من عقولهم الذكية المتفتحة سريعة البديهية، ووضعهم في الاتجاه الصحيح وعدم توريطهم بالصراعات حول السلطة والمناصب والمغانم التي تشوب العملية السياسية السائدة حالياً.
      لعل من المفيد القول إنّ الحس النقدي والاحتجاج المنظم يمكن ان يبدأ من الظواهر القريبة من الاطفال أنفسهم، فمثلا يمكن ان يحتج الاطفال حول التقصير في تطبيق المنهج الدراسي أوالاكتظاظ في الصفوف أو عدم توفر الخدمات الضرورية، وفي مقدمتها النظافة والتهوية الصحية والتبريد والتدفئة والمرافق الصحية والرحلات والكتب والقرطاسية التي يجب ان تقوم الإدارة التربوية بتوفيرها لأنّها من أبسط الحقوق المشروعة في التعليم، وسوف يتفاعل الطالب مع المعلم والإدارة المدرسية في المطالبة بتلك الحقوق وتوصيل أصواتهم الناقدة بطريقة حضارية وتربوية سليمة.
 عندما تنمو شخصية الطفل في ظل أجواء الحوار وحق النقد سوف يكون ناشطاً وذكياً لدى وصوله الى مرحلة الشباب والدراسة الجامعية، ومن الملاحظ أن أغلب التظاهرات يفجّرها عادة هؤلاء الشباب الذين يمتلكون ذلك الحس الإنساني والشعور بالكرامة والرؤية الثاقبة للمستقبل، وقد لا يجدون وسيلة أخرى للتعبير عن مطالبهم المشروعة سوى النزول إلى الشارع وإجبار الطبقة السياسية الحاكمة على تلبية تلك المطالب السلمية، وتصويب مسار العملية السياسية بكاملها.
 الديمقراطية هي تربية وتنشئة قبل أن تكون تشريعات وممارسات سياسية وصرعات، وأن التظاهر السلمي يمثل أحد تطبيقات الحياة الديمقراطية الصحيحة، دون سفك دماء أو تدمير ممتلكات، وإن أولادنا يجسّدون أحلامنا التي عجزنا في تحقيقها وقد يسبقوننا في الذهاب الى المستقبل بطاقتهم واندفاعهم بلا خوف أو تردد، وعلى الآباء ان يفهموا ان المستقبل يمتلكه الأبناء وهم يتوجهون لصنع مستقبلهم بأنفسهم، إذا وجدوا أمامهم الطريق الصحيح
 سالكاً.