كيف سرقت المدن الأوروبية الكبرى ثروة قارتها؟

بانوراما 2019/12/14
...

جوليان كومان
ترجمة: خالد قاسم
يبقى {بار باسو} واحدا من أكثر المؤسسات الاجتماعية احتراما بمدينة ميلان الايطالية، فقد افتتح المكان عام 1967 ويجسد المزيج الميلاني  الازدهار الأنيق والتصميم الرائع، وهو وجهة مفضلة لنخبة المبدعين والأثرياء.
يجلس بييرلويجي ديالوتشي  في إحدى زوايا المكان ويفسر قدرة ميلان على التكيف اذا أصاب كابوس سياسي بقية مناطق ايطاليا: "من المحتمل جدا اتجاه البلاد نحو لحظة استيلاء اليمين المتطرف بزعامة ماتيو سالفيني على السلطة، لكن ميلان ستبقى كما هي اذ تتوفر أموال كثيرة هنا."يعمل بييرلويجي مستشارا ماليا بإحدى المؤسسات العالمية الضخمة التي جعلت ميلان مركز خدمات لرأس المال الدولي.
ونشأ بييرلويجي في روما لكنه انتقل الى الشمال قبل 13 سنة لدراسة الاقتصاد بجامعة بوكوني الشهيرة، وعمل لفترة وجيزة بمصرف باركليز ومن ثم لمدد قصيرة بالخارج، وينوي البقاء بأغنى مدن ايطاليا وأكثرها عالمية.
تنبع ثقة بييرلويجي من استطلاع رأي أجري العام الماضي ووجد أن 85 بالمئة من السكان لن يرغبوا بالعيش بمكان آخر، و81 بالمئة يعتقدون أن مدينتهم يجب النظراليها بوصفها أنموذجا اقتصاديا يجب مضاهاته. 
وبما أن مدنا مثل باريس وأمستردام وميونيخ وبرلين قد تطمح بشكل معقول للتنافس مع ميلان، لكن بقية مدن ايطاليا وبعد 20 سنة من الركود الاقتصادي تكتفي بالحلم.
تتحرك ميلان بمدارها الخاص، وتحصد مكافآت ثمينة من اقتصاد يرتكز على القطاعات المالية والتكنولوجية والتصميم والابتكار. وأصبحت المدينة أنيقة بقدر ما هي ثرية، اذ تستضيف العام المقبل قمة ثقافة المدن العالمية، ودورة الألعاب الأولمبية الشتوية 2026 بالمشاركة مع بلدة كورتينا بجبال الألب. 
وتقود معدلات استثمار أجنبي غير مسبوقة مشاريع تطوير جديدة بمختلف مناطق المدينة، إذ ينفذ 40 مشروع بناء كبيرة بقيمة 21 مليار دولار خلال السنوات الخمس عشرة
المقبلة.
وأشرف العمدة جيوزيبي سالا على زيادة 50 بالمئة بالسياحة اعتمادا على ترويج المناطق الثقافية للمدينة مثل لوحات ليوناردو دافنشي، ويشهد العام المقبل استضافة ميلان معرض الكتاب الدولي الذي اعتادت تورين على اقامته.
 
تغيرات ديموغرافية
أخفق فريقا المدينة، انترناسيونال وأي سي ميلان، في مواكبة سرعة تطور ميلان وتنميتها. وكلما ازداد تدفق الأموال ارتفعت وتيرة وصول الشباب الموهوبين الايطاليين ورهان المستثمرين الأجانب على المستقبل. وتشهد مناطق مختلفة من المدينة ارتفاع نصب الرخاء مثل "البرج الملتف" الذي صممته زها ء حديد، ويطل على حديقة عامة وتجمعات سكنية مسورة للأغنياء صممتها زهاء الى جانب دانييل ليبسكند والمعماري الياباني ايراتا ايسوزاكي، لكن وعلى غرار بقية أنحاء أوروبا فقصة النجاح هذه لها ثمن غال.
نشر مركز الاصلاح الأوروبي، الذي يتخذ من بروكسل مقرا له، في آيار الماضي دراسة بعنوان "النوع الأوروبي الكبير؟ الحظوظ المتباينة لمناطق أوروبا"، وتشير كلمة نوع الى عملية غربلة تتضمن تحويلا ثابتا لديموغرافيا دول الاتحاد الأوروبي، وقيادة الاستقطاب الذي يحدد الوضع السياسي الأوروبي.
تقول الدراسة : إن مدن ما بعد الصناعة هي قصة نجاح مبنية على تجمع الخدمات الراقية بالمدن العالمية الكبرى، "شهدت الثمانينيات والتسعينيات معاناة مراكز صناعية، مثل "الرور" في ألمانيا، من تراجع نسبي بالانتاج الصناعي. وتمكنت المدن الأكبر مثل باريس ولندن من الحلول مكان الانتاج الصناعي المتراجع بخدمات عالية القيمة."
أضافت الدراسة أن تلك المدن الكبرى أعادت ابتكار نمط جديد من السكان بحلول القرن الحالي، وكانوا "أصغر سنا وأعلى تعليما وأغنى من الأوروبيين المقيمين بمدن وبلدات أقل 
نجاحا." 
والنتيجة، كما يذكر التقرير، هي انقسام مضر بين البلدات كبيرة السن والمناطق الريفية مع المدن الكبرى. 
شغلت تلك المواضيع بال المفكرين مثل كريستوف غيلوي وغيلوم فابورل في فرنسا، وكلاهما جغرافيان، ما يعكس الواقع الجديد بأن سياسة المكان أصبحت لا تقل أهمية عن الطبقة والعرق والجنس بفهم اشارات الأوقات المضطربة.
يعد غيلوي ناقدا حادا لما يصفها "حصون" القرن الـ21 والتي أصبحت "نافذة تسوق للعولمة السعيدة." ويعتقد أن المدن المتألقة هي منطقة محمية للنخب التي تخدم حاجاتها اليومية طبقة المهمشين ممن يسكنون أطراف التمدد
الحضري.
 
فجوات متزايدة
نشأ البروفيسور روبرتو كاماني في ميلان وشاهدها تزدهر بالسنوات الأخيرة بمزيج من الاعجاب والخوف، علما أن تخصص روبرتو الاقتصاد الحضري، "اعتقدت أنها بلغت الذروة لكنها استمرت بالتقدم." ويرى روبرتو أن ميلان زادت حصتها من الناتج المحلي الاجمالي الايطالي بين عامي 2000 و2016 بنسبة تفوق 17 بالمئة، وسجلت أربع مدن أخرى فقط زيادات وتلتها روما بنسبة تتجاوز 4 بالمئة.
يضيف روبرتو: "توفر المدينة الممولين والمحامين والمصممين والفنانين والثقافة وكل شيء ضروري لتكون محطة دولية معاصرة. 
وتمتلك احتكار الخدمات الراقية ذات أعلى الأسعار، وعلى بقية مناطق ايطاليا تسديد تلك الأسعار. ففي الأزياء تحتل قمة سلسلة عالمية طويلة لديها عمال ملابس واطئي الأجور في فيتنام، والمشكلة هي أن هذه المعجزة بميلان تتضمن مليون شخص تقريبا بقلبها، وهزت المدينة المناطق الصناعية مما يخلق مشكلة نزاهة لمناطق أخرى."
هذه الأماكن مثل ميلزو، على سبيل المثال، وهي بلدة صغيرة تقع على مسافة 20 كم شمال غرب ميلان و20 دقيقة بالقطار. ويواجه المسافرون عند خروجهم من محطة القطار أرضا خراب ونصبا عملاقا متداعيا عن الماضي المميز عندما تمتعت صناعة الألبان هناك بشهرة وطنية. هذا الصرح هو كل ما تبقى من مكاتب غالباني القديمة المشهورة، وهي مقر الشركة المنتجة للجبنة عند بداية القرن الماضي، وبعد تركها بمنتصف الثمانينيات تحولت لمصدر خطر على الصحة العامة. 
وتؤكد الأطلال الصناعية احساس خسارة المهنة ببلدة تعتز بنفسها، إذ اختفت صناعة المعادن أيضا، وتظاهر عمال معادن البلدة في ميلان ضد فقدان ألفي وظيفة بمقاطعة لومباردي، وحوّل انخفاض النشاط الصناعي ميلزو الى بلدة خامدة.
صوتت ميلان في الانتخابات الأوروبية الأخيرة لصالح الحزب الديمقراطي، أما بقية لومباردي فصوتت لليمين المتطرف. وبعد ذلك جلس بيترو بوسولاتي المسؤول بالحزب الديمقراطي بالحكومة المحلية مع زملائه ورسموا خارطة غير مألوفة لميلان العالمية.
لكن بيترو واقعي بما يكفي للاعتراف أن تطوير طرق النقل لن يسد الفجوة الاقتصادية والثقافية الواسعة بين كبرى المدن الأوروبية المزدهرة والبلدات الغاضبة، "سيعنى المستقبل أقل بالدول القومية وأكثر بالمدن الكبيرة، فهي تمتلك ثروة المستقبل بأيديها. 
والهدف هو ضمان عدم بقاء تلك الثروة داخل تلك المدن فقط بل توزيعها خارج بواباتها، وهي أولوية قصوى لليسار العالمي: كيفية ادارة النمو المستقبلي للمدن الكبيرة."
 
صحيفة الغارديان البريطانية