موسوعة وأُبوة ثقافية وتراثية

ثقافة شعبية 2019/12/15
...

جاسم عاصي
 
 
من منّا لا يذكر الباحث والموسوعي في الأدب والتراث والثقافة الشعبية وأدبها (محمود العبطة المحامي) .
 فقد كان  معطاء في كتاباته ،وواهباً لها لما حوله من مختلف الأجيال . فقد عرفته  أباً ومعلماً ومرشداً لي ولزملائي في مقتبل شبابنا ، ولم يبخل علينا في ملاحظاته يوماً .
 يختار لنا العناوين للكتب التي نشتريها ،ويرشدنا إلى المكتبة التي تبيعها ، ويؤكد لنا نحن النخبة من الشباب ( حسين محمد سعيد ،حسين السلمان ، صالح البدري ، عبد الجبار العبودي ، مهدي السماوي) الذين يتحلقون حول مجلسه في مقهى (عرف آغا) في
 شارع الرشيد.
 يهلُّ بنا ويرحب ، ويُضيفنا . وكعادته يسأل وهو يتربع على الأريكة المفروشة بالسجاد في المقهى ، عن شرائنا للكتب وقراءاتنا، فنحن من يأتي من المحافظات لزيارة بغداد في العطل الرسمية . يسأل عن كتاباتنا ، ويستمع
 إلى بعضها . 
ويرسل لنا ما يُنشر لنا من قصص ومقالات، مذيلاً إياها بملاحظاته القيّمة . وأذكر أن حادثة دارت في الوسط الثقافي ، دفعته إلى اصدار مجلته الدورية
(القافلة) .
 أرسل بطلب نتاجاتنا ،لتكون مادة العدد ، الذي دفعه إلى اصداره ما كتبه الدكتور(يوسف عزالدين)عن الشاعر
(الرصافي) . وقد احتل المقال الحاد اللهجة ، المدعم بالحقائق زهاء ثلاثين صفحة ،دفاعاً عن الشاعر .لقد كانت اهتماماته في الكتابة متنوعة ، فهو مؤرخ للأدب ، ناقداً له. 
ومستلهماً بلاغة الثقافة الشعبية . وله كتاب تحت عنوان(بدر شاكر السياب والشعر العراقي الحديث) كان يجمع في محتواه بين النقد والدفاع عن أولوية من كتب شعر التفعيلة.  فقد وجدناه منصفاً للسياب كما هو لنازك
 الملائكة .  بمعنى أنه كان موضوعياً في تحليله وذكر الشواهد التي تُدعم وجهات نظره . ويُعد الكتاب مصدراً نقدياً بحثياً ، كما هو كتاب (محمد النويهي) عن
 شعر السياب .  ويوم أصدر الأديب(حسين محمد سعيد) مجلته المكتوبة بخط الأدباء المشاركين ، ومنهم (صالح البدري، حسين السلمان، عودة عبد النبي) الذي كان يعمل في محل(جقمقجي) للأسطوانات الكائن في نهاية
 شارع الرشيد .
 وكانت الشلة تلتقي في المقاهي( الخيام،عارف آغا، ومقهى في ساحة الرصافي ) . الكل يستمع إلى توجيهات العبطة  ويسترشد بها ،لأنها صادرة عن أُبوة فائضة 
أذكر حين اغتيل الأديب الكردي(حسين محمد سعيد)طلب الأديب (فاضل الربيعي ) أن نعمل سوية لا صدار ملف عنه في صحيفة (الفكر الجديد)
 الأُسبوعية .
 وقد كلفني بلقاء الأديب( العبطة ) ومفاتحته للمشاركة في الملف . ومع أني فارقته زمناً تجاوز العشرسنين ، لكن بعد السؤال ،قيل لي أن مكتبه في جانب الكرخ قرب مركز الشرطة. وفعلاً ذهبت إلى مكتبه كمحام ، وكانت منطقته ضيقة ، وسلم شقته طويلاً ، والإنارة خافتة والبناية قديمة جداً. لهثت حتى وصلت . كان باب مكتبه مفتوحاً .دخلت
 وسلّمت علية . 
وجلست . ولا أدري وقتها لِمَ ترك المكتب وجلس بالقرب مني؟ . 
فظننت أنه  قد عرفني ، غير أنه سألني كزبون: تفضل ما هي قضيتك . فصمت ولم يظهر عليّ الاستغراب . أجبته :أني ضيعت أباً في زحمة الحياة ، وجئت أسأل عنه في مكتبكم ،فأنت العارف به .
 ومن نبرة صوتي احتضني قائلاً : ولك جاسم .. كبرت وزحف الشيب إلى شاربيك؟! . 
سألني دفعة واحدة : هل تزوجت ؟ قلت : نعم . قال هل أنجبت زوجتك أولاداً ؟ قلت نعم.. أثنين.  قال أيضاً: بالتأكيد أسماؤهم فلسطينية؟ قلت: انهما سميح وغسان . قال : والله أنت أصيل
 منذ شبابك.  وبكى حين ذكرت سبب مجيئي ووعدني بالكتابة . وفعلاً شارك بتميّز 
كان رحمه الله يرسل لي كل ما يصدره من كراريس تخص التراث الفكري مثل(ابن خلدون ، الفارابي ) وغيرهم . وهي كراريس تحتوي على مقالات ودراسات . وبسبب عدم مقدرته المالية لجمعها في كتاب، يلجأ إلى استنساخها على شكل كتيبات بملزمة أو أكثر ، يحفظها لدى أصدقائه وتلاميذه من أمثالنا . 
رحم الله الباحث القدير(محمود العبطة المحامي) ، وكم تمنيت أن يُصار إلى احياء ذكره  عبر الأزمنة ، وتمثيل شخصه بنصب في مدينته ،تُحيي ذكره كصديقه الرصافي ، وبدرشاكر السياب ، والجواهري ،
 وهذا أضعف الإيمان !