دفع المال للناس لينجبوا أطفالا

بانوراما 2019/12/15
...

جينا فيفيلينين  
ترجمة: مي اسماعيل 
 
تتناقص معدلات المواليد في أرجاء أوروبا؛ لذلك عمدت بعض الدول الى تقديم حوافز مالية لمحاربة تلك الظاهرة.. ولكن هل يستطيع المال وحده إحداث الفرق المطلوب؟ منذ سنة 2013 أصبح كل مولود جديد في قرية "ليستيجارفي" (Lestijärvi؛ وهي واحدة من أصغر بلديات فنلندا) يساوي مبلغا قدره- عشرة آلاف يورو! بدأ هذا منذ قررت ادارة القرية محاربة تقليص معدلات الانجاب وتناقص أعداد السكان في القرية؛ التي لم يولد فيها سوى طفل واحد خلال السنة السابقة. 
قدمت البلدية حافزا بعنوان: "علاوة الطفل"؛ يقضي بأن ولادة طفل لأي من السكان سيؤهلهم لتسلم مبلغ عشرة آلاف يورو، مدفوعة على عشر سنوات. وقد أثمرت المبادرة؛ إذ شهدت القرية ولادة نحو ستين طفلا منذ ذلك الحين. ومقارنة بنحو 38 طفلا فقط ولدوا خلال السنوات السبع السابقة؛ فإن الأطفال الجدد شكلوا دفعة كبيرة للقرية التي لا يزيد حجم سكانها عن ثمانمئة شخص. 
يعمل "جوكا بيكا تويكا" (50 سنة، من مستلمي علاوة الاطفال) وزوجته "جانيكا" (48 سنة) في الصناعات الزراعية، وقد ولدت طفلتهما الثانية "جانيت" سنة 2013، في الوقت المناسب لتحمل لقب: فتاة العشرة آلاف يورو. يقول تويكا: "كنا نخطط لبعض الوقت لانجاب طفل ثانٍ، لا سيما وأننا نتقدم بالسن؛ لذا لا يمكن القول ان المال أثر فعليا في قرارنا". لكنه يرى أن الحافز كان خطوة مهمة أظهرت اهتمام الادارة المحلية بتقديم العون للأسر. ادخر تويكا معظم المبالغ التي تسلمها حتى الآن والتي تبلغ ستة آلاف يورو، ويخطط لاستخدامها بطريقة تفيد جميع أفراد الاسرة مستقبلا. اليوم قدمت بلديات مدن فنلندية اخرى "علاوة الاطفال"؛ بمبالغ تتراوح بين ألفين الى عشرة آلاف يورو. ولكن معدل الولادات الوطني ما زال متعثرا برغم الحوافز المحلية، وكما هو الحال في دول أوروبية اخرى؛ فقد تناقص ذلك المعدل بصورة ملحوظة خلال العقد الماضي. ووصل أوطأ معدلاته سنة 2018، ليكون 1.4 ولادة لكل امرأة؛ مقارنة بمعدل "الاحلال" البالغ 2.1 (الاحلال هو حاصل الفرق النسبي بين الولادات والوفيات للبلد الواحد- المترجمة)، وتوقف منذ عشر سنوات عند 1.85.  
 
تجارب أوروبية متنوعة 
لدى فنلندا العديد من البرامج القوية لدعم الاسرة؛ ومن بينها- "صندوق مستلزمات الاطفال الجدد" المشهور عالميا، الذي يقدم للاسر التي تنتظر مواليد جديدة. هناك أيضا علاوة شهرية قدرها مئة يورو للطفل الواحد، واجازة الامومة المشتركة بين الأبوين التي تصل لتسعة أشهر، مدفوعا فيها نحو سبعين بالمئة من الراتب. ومع أن فنلندا تنفق من المال العام مبالغ أكبر (كمعدل) من باقي دول الاتحاد الأوروبي على الدعم الاسري؛ فأن "ريتفا ناتكين" (باحثة العلوم الاجتماعية بجامعة تامبيري) تعتقد أن سياسات الدعم الاسري تبقى متأخرة عن باقي الدول الاسكندنافية، مثل السويد (التي تقدم اجازة أمومة أكثر سخاء). تستشهد ناتكين بالمنح المالية مثل- إعانة الطفل وبدل الرعاية المنزلية للطفل، التي فقدت قيمتها أما لعدم ارتفاعها أو لقطعها. 
اضافة الى عدم ثبات المناخ والاقتصاد لكونها أسبابا تقف وراء تناقص معدل الولادات. اذا- هل يمكن اعتبار سياسة "ليستيجارفي" بدفع المال الى الآباء والامهات الجدد طريقة فاعلة لزيادة معدلات الانجاب؟ تقول ناتكين إن تقوية الحوافز المادية لدى الاسر ستساعد غالبا بزيادة معدل الولادات الى حد ما؛ لكن ليس من المرجح أن تقود الحوافز المالية وحدها لموجة ولادات قوية؛ خاصة لأن توجه الناس عموما نحو انجاب الاطفال قد تغير مع الزمن. يعتقد تويكا أن للدفعات المالية تأثيرا ايجابيا في قرار بعض سكان القرية للانجاب؛ لكنه يشك أيضا ما إذا كان هذا الاجراء وحده دافعا كافيا؛ قائلا: "الأهم هنا هو ترغيب السكان بالبقاء في القرية بدلا من الرحيل
 عنها".
 
موجة الطفل الثالث
تختلف الصورة نوعا ما عبر خليج فنلندا، حيث تمكنت أستونيا (من دول البلطيق) من رفع معدلات مواليدها خلال العقد ونصف الماضي. يمكن إرجاع تلك النتائج الى حد ما لقرار الحكومة بالاستثمار في سياسات دعم الاسرة؛ غالبا بزيادة المساعدات المالية للأسر الكبيرة. إضافة الى سياسة الاجازة الاسرية السخية التي بدأ العمل بها سنة 2004؛ التي تستمر سنة ونصف مع فوائد مدفوعة. وبدأ سنة 2007 العمل بإعانة الأطفال الشهرية؛ ستين يورو للطفل الأول، وستين يورو للطفل الثاني، ومئة يورو للطفل الثالث. كذلك تكافئ الدولة الاسر التي تنجب ثلاثة أطفال أو اكثر؛ إذ تتسلم علاوة شهرية قيمتها ثلاثمئة يورو. وعموما تتلقى الاسرة الاستونية ذات الثلاثة أطفال مبلغ 520 يورو/شهر كاعانة اسرية. بالنظر لكلفة المعيشة المعتدلة نسبيا وانخفاض متوسط الدخل في أستونيا؛ تمثل تلك المعونات مساعدة اقتصادية سخية. ويبدو أن تلك البرامج قد أثمرت؛ إذ ارتفع معدل الولادات من 1.32 في أوائل القرن الحالي الى 1.67 سنة 2018 (رغم انخفاض صغير أوائل العقد الحالي). 
يؤكد "آلان برر"(أستاذ علم السكان بجامعة تالين) أن الحوافز المالية تبدو وكأنها حققت تأثيرات ايجابية؛ مشيرا بالذات الى حواز سنة 2017 التي قادت الى ما يسمى "موجة الطفل الثالث" على نطاق صغير. ومع ذلك، هناك جوانب اخرى للموضوع.. يذكر "برر" تحسن امكانية الوصول لمرافق الرعاية اليومية العامة للأطفال والنمو المستقر نسبيا للاقتصاد الأستوني كونهما عوامل قد تكون فرضت تأثيرها ايجابيا في ارتفاع معدل الانجاب، قائلا: "معدلات الخصوبة من الأمور المسايرة للاتجاهات الدورية (أي- الاحداث التي تقع بشكل دورات. المترجمة)؛ بمعنى أن معدلات الانجاب تميل للارتفاع حينما تكون الفرص الاقتصادية جيدة وبالعكس". إذ توفر الحوافز الاقتصادية أساسا يعمل لإبقاء معدلات المواليد في تصاعد؛ لكن عوامل اقتصادية اكثر عمومية تلعب دورا جوهريا أيضا. 
 
فرنسا تحب الأسر
يعتقد "لوران توليم" كبير الباحثين في المعهد الفرنسي للدراسات الديموغرافية أن المنظور العام تجاه الاسر يشكل فارقا أيضا؛ قائلا ان مواطني فرنسا يعرفون أن الدولة تحب الاسر ويثقون بأنها ستساعدهم ماليا. ورغم انخفاض معدل الولادات قليلا خلال السنوات الاربع الماضية؛ ما زالت فرنسا تتمتع بأعلى المعدلات في الاتحاد الأوروبي، التي وصلت الى 1.84 سنة 2018. يُعرف عن فرنسا سياساتها المستقرة المؤيدة لنمو الاسر الطبيعية، وإنفاق المزيد من المال العام على الأسر (أكثر من باقي دول "منظمة التعاون والتنمية- OECD").
 تقدم الدولة الفرنسية أنواعا متنوعة من الفوائد والبدلات، منها- "منحة الولادة" وهي نحو 950 يورو، متبوعة بمبلغ شهري للأطفال ومنح اسرية متنوعة، ترتفع العديد منها بزيادة عدد الاطفال. كما تمنح الاسر الفرنسية خصومات من ضريبة الدخل ورعاية نهارية (للأطفال) مدعومة من الدولة. لكن توليم يبقى مترددا في اعتبار أن الحوافز المالية هي السبب وراء معدلات الولادات المرتفعة بفرنسا؛ فهناك عوامل اخرى قد تلعب دورا كبيرا أيضا؛ منها المشاعر الفرنسية القوية والإيجابية تجاه تكوين أسرة، وضد عدم الإنجاب والأسر ذات الطفل الواحد.
المال.. وعوامل اخرى
مع ان المال أمر مساعد؛ لكن تحفيز موجة زيادة في معدلات المواليد تبقى نتاج مجموعة معقدة من المفاهيم الاجتماعية والسياسيات الداعمة للاسرة والاسناد المادي. وهناك حالة مثيرة للانتباه في ايطاليا تُظهر كيف أن تلك "الموجة الممتازة" يمكنها إحداث الفرق المطلوب. 
كانت معدلات المواليد بايطاليا منخفضة لعقود، وتشهد تراجعا منذ سنين؛ حتى وصلت انخفاضا قياسيا سنة 2018، لتصير 1.3؛ لكن هناك مقاطعة ايطالية واحدة تخرج عن ذلك النمط: بولزانو، الواقعة على الحدود بين سويسرا والنمسا، ولديها معدل ولادات يصل الى 1.67، وهو أعلى من المعدل الأوروبي وقدره- 1.60. تتمتع تلك المقاطعة (المعروفة أيضا بتايرول الجنوبية) باستقلال ذاتي وتضع سياساتها الخاصة؛ وسياسات رعاية الاسرة فيها من الأكثر سخاءً مقارنة بمناطق اخرى في ايطاليا، إذ تتلقى الاسر دعما اقتصاديا أكثر. تصل معونة الطفل الشهرية هناك الى مئتي يورو؛ وهذا أكثر من ضعف المعدل الوطني. وهناك معونات اضافية خاصة لذوي المدخولات الواطئة. لكن بلزانو تتفوق أيضا على مدن ايطالية اخرى بتقديم خدمات صديقة للأسرة منها- الرعاية اليومية؛ كما يفسّر "مايكرو تونين" استاذ السياسة الاقتصادية بجامعة بولزانو الحرة. وبينما يقوم الأجداد في مناطق اخرى بايطاليا عادة برعاية الاحفاد الصغار، يسهل في بولزانو ايجاد مرافق رعاية الاطفال
 محليا. 
يؤكد تونين أن دعم الاسر أمر مفيد؛ لكنه يعتقد أن مفتاح معدل الولادات العالي ببولزانو يكمن في مساهمات سوق العمل النسوي. فهناك تعمل نحو 73 بالمئة من النساء بين سن 20- 64 سنة، مقارنة مع 53 بالمئة لعموم ايطاليا، إذ تسود النظرة المحافظة حول أدوار الرجال والنساء في المناطق الجنوبية. يقدم أصحاب العمل في بولزانو (وبضمنهم القطاع العام الواسع) ساعات عمل مرنة، اضافة للعمل بدوام جزئي أو من المنزل؛ مما يجعل من السهل على النساء الجمع بين الأمومة
والعمل. 
تشكل بولزانو حالة جديرة بالدراسة، تكشف أن رفع معدل الولادات قضية لا يمتلك حلولا سهلة؛ بل شاملة. وإذ تستمر اعداد الأوروبيين في التناقص؛ تستمر بعض القرى الصغيرة والمدن الكبيرة (على حد سواء) بمحاولة تطبيق برامج تعزز معدلات الولادات فيها. لكن ذلك لا يتمحور حول المال رغم كل شيء؛ إذ ترى البيانات المستقاة من الخبراء والأفراد أن دفع الناس للإنجاب مسألة معقدة لا يمكن حلها بدفع صكوك المال
 ببساطة! 
بي بي سي البريطانية