حماية المدنيين خلال الصراعات

بانوراما 2019/12/15
...

ويم زوينينبرغ  ترجمة: انيس الصفار 

من المهم في أي صراع مسلح أن ينتهج باسلوب شامل وملموس لحماية المدنيين من خلال حماية البيئة. فعلى مدى العقود الأخيرة بات الترابط القائم بين الصراعات والبيئة وتوفير الحماية للمدنيين واضحاً أشد الوضوح. من العراق الى أوكرانيا، ومن ليبيا الى اليمن، أخذت تطفو الى السطح عشرات الحالات والأمثلة التي أدى فيها تضرر البيئة جرّاء صراع ما الى بروز اخطار مهددة لصحة المدنيين والمجتمعات، على نحو حاد أو مزمن، الأمر الذي ترك اثاره الهدامة على نموهم الاجتماعي وانتعاشهم الاقتصادي.

لهذا السبب وجب على الدول والمنظمات الدولية والجمعيات المدنية أن تتكاتف وتضم قواها لإبراز الضرر البيئي الى العيان والعمل على خفضه، وهذا قابل للتحقيق عبر زيادة البحوث التي تسلط الضوء على هذا الترابط القائم بين الصراعات والبيئة، لأن التحسن المتحقق في تدفق المعلومات وعمليات التقييم سينعكس تعزيزاً وقوة لاتفاقيات الحد من هذه الأضرار، أو حتى منع وقوعها، وهو الأمل الأمثل المنشود. كذلك سيساعد هذا المنحى على استقطاب التمويل لمعالجة التأثيرات البيئية فتنتج عنه استجابة انسانية وتطور في وسائل حماية المدنيين. تحسن عملية جمع ومراقبة البيانات سيتيح لنا محاسبة الأطراف المقصّرة وتحميلها مسؤولية افعالها.
 
الآثار البيئية للصراعات
يتزايد الاعتراف بالاثار التي تخلفها الصراعات على البيئة وسلامة المدنيين. فخلال أيار الماضي اصدر الأمين العام للأمم المتحدة أحدث تقرير يتعلق بحماية المدنيين اثناء حالات النزاع المسلح، ولأول مرّة منذ التقرير السابق الذي صدر قبل 20 عاماً خصص التقرير الجديد فصلاً لتأثير الصراعات في البيئة، وهذا تطور مرحب به عقب مبادرات سابقة انبثقت من داخل اروقة الأمم المتحدة، مثل مبادرة مقرري الأمم المتحدة لحقوق الإنسان المتعلقة بالمخلفات السامة للحروب وقرارات جمعية البيئة التابعة للأمم المتحدة واعمال مفوضية القانون الدولي. لاحقا، شدد "بيتر مورر"، رئيس هيئة الصليب الأحمر الدولية، على قوة ارتباط البيئة بهذا الطرح الجدلي حين صرح بأن القانون يشمل بحمايته البيئة الطبيعية باعتبارها وجهاً من أوجه الحماية المدنية، وهذا يشمل الموارد الطبيعية الحيوية التي يمكن ان تكون لها، إذا ما تضررت، عواقب وتبعات، لا على استمرارية التجمعات المدنية فحسب بل على بروز المخاطر البيئية ايضاً."
الأمثلة عديدة على تسبب المؤثرات البيئية بمخاطر مباشرة أو غير مباشرة على حياة المدنيين وطرق عيشهم. من بين هذه الامثلة حرق آبار النفط الكويتية مطلع العام 1991 وآبار القيارة شمال العراق اواخر العام 2016، ناهيك عن عمليات القصف التي طالت مناطق صناعية واسعة في أوكرانيا تضم مصانع للمواد الكيمياوية ومنشآت لخزن النفايات السامة، وكلها حالات نجمت عنها كوارث بيئية كبرى. شهدنا ايضاً تصاعد استهداف البنى التحتية الاساسية أو البيئية، مثل شبكات الصرف الصحي ومحطات تصفية المياه ومنشآت الري في غزة والعراق وليبيا وسوريا واليمن. بعض الحالات ساهمت بظهور ازمات صحة عامة كان مبعثها شحة الاغذية وارتفاع معدلات الاصابة بالامراض المعدية وضعف الرعاية الصحية.
 
انهيار إدارة البيئة 
عادة ما تؤدي الصراعات الى انهيار الإدارة الحكومية للبيئة، عدا عن استهداف البنى التحتية المذكورة، وهذا يعقبه بالطبع تراكم النفايات وانتشار الأمراض الانتقالية مثل الكوليرا واللشمانيا، وهي مشكلة عانت منها سوريا واليمن. 
هنالك كم ضخم من الابحاث التي تثبت العلاقة الوثيقة القائمة بين مخلفات الحرب السامة العديدة، التي تنجم عن النشاطات العسكرية، والمخاطر الصحية التي تصيب المدنيين. قد يؤدي تدمير مصافي النفط المتخصصة، مثلما شهدته سوريا، الى ظهور ستراتيجيات اخرى للتعامل مع التلوث، مثل تكرير النفط الحرفي. ووجد الباحثون ارتباطاً بين ارتفاع ظاهرة مقاومة المضادات الحيوية لدى جرحى مدينة الموصل ومصادر التلوث التي خلفها الصراع، مثل التلوث بالمعادن الثقيلة. هذه الحالات أبرزت قوة العلاقة بين حماية البيئة ووقاية المدنيين والخطوات التي يمكن اتباعها للتعامل مع هذه العلاقة.
هناك اشياء كثيرة يمكن القيام بها لتعزيز الأعراف والمعايير ضمن اطار "حماية المدنيين" ومن بعد ذلك ربط هذه الأعراف والمعايير بغيرها من الأعمال المتعلقة بحماية البيئة في حالة الصراعات المسلحة على النحو الذي تدعو اليه مفوضية القانون الدولي وقرارات برنامج الأمم المتحدة للبيئة.  
    
حماية المدنيين 
من الواجب وضع أطر سياسة فعالة جديدة ترتكز على قاعدة متينة من البيانات لأن هذا سيعيننا على فهم ما يدور على أرض الواقع وكيف تتسبب النشاطات العسكرية بتهديدات بيئية لصحة المجتمعات ورفاهها: من المسؤول؟ وما المطلوب لمنع تلك التأثيرات وتقليصها الى ادنى الحدود؟ 
إن أي تحسن في وسائل التشخيص والتوثيق والمتابعة سيبرز الانماط والتأثيرات التي تستطيع الدول التصدي لها ضمن سياسة مناسبة.
ما نقترحه هو، أولاً: ادراج مزيد من الاشارات الدالة على مخاطر الصحة البيئية الناجمة عن الصراعات ضمن تقارير حماية المدنيين مستقبلاً، مدعومة بالبيانات التي عكفت على جمعها وكالات مختلفة ذات صلة تابعة للأمم المتحدة او للسلطات المحلية او جهات البحث ومنظمات المجتمع المدني. هذا سيرفع مستوى الوعي بالعلاقة الوثيقة القائمة بين حماية المدنيين وحماية البيئة خلال الصراع المسلح، كما سيبرز ضرورة التحرك لاتخاذ الاجراءات المناسبة.
ثانياً: اجراء مناقشات سنوية داخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ويحبذ أن يكون ذلك بمناسبة "يوم الامم المتحدة لمنع استغلال البيئة في الحروب والنزاعات المسلحة"، لأنه سيتيح فرصة للحوار والمداولة التي يمكن ان تفضي الى عملية متحركة تأخذ مسارها. وباستطاعة الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة والأكاديميون ومنظمات المجتمع المدني أيضاً إعداد تقارير بالتقدم المنجز، سواء كان ذلك التقدم قانونياً أم انسانياً ام ضمن منظورات حقوق الإنسان، خلال العام الماضي وفر لقاء "أريا فورميولا" حول هذا الشأن نقطة انطلاق طيبة في هذا الاتجاه. من الناحية المثلى سيكون مناسباً تأسيس منبر فعال متعدد الأطراف مهمته مناقشة مسؤولية الدول عما تقوم به من عمليات عسكرية وقرارات الاستهداف التي تتخذها ضمن إطار تلك العمليات. 
لا يوجد حالياً منبر كهذا لمناقشة هذه المسائل، كما أن اعضاء جمعية البيئة التابعة للأمم المتحدة يؤمنون بأن هدف جمعيتهم محصور بالبيئة وحدها، وأن الصراعات شأن سياسي لا يمكن لهم مناقشتها، أما الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها فلا يرتئيان أن للشؤون البيئية صلة بقضايا نزع السلاح ودرء الصراعات طالما أن الهدف هو الحفاظ على الأمن. 
ثالثاً: زيادة الدعم لنشر وتعميم ما يتمخض عنه التقييم البيئي، باعتبار الأمر استجابة انسانية لنتائج الصراعات، يمكن أن تنتج بدورها مزيداً من البيانات البيئية والدعم الشامل التي تمكّن من معالجة تلك الاخطار الاضافية المهددة لصحة المدنيين ورفاههم المعيشي ومجتمعاتهم جراء تضرر البيئة.
خلال دورة حياة الصراعات هناك امكانية لتحسين اساليب محاسبة الدول وردود الفعل العالمية لدرء هذه المخاطر الصحية البيئية وتقليص مدياتها الى اضيق الحدود وذلك من خلال البحث العلمي الواعي والنقاشات متعددة الاطراف بين الدول الاعضاء والمجتمع المدني. نحن نؤمن بوجود ضرورة ملحة لإثبات الصلة الجلية بين كيفيات حماية البيئة وحماية المدنيين. 
ومن الممكن المباشرة منذ الآن باتخاذ خطوات لتحسين مستوى الحماية للبيئة وللمدنيين معاً.  
 
مركز وودرو ولسون للتغير البيئي وبرامج الأمن