الآثار الاجتماعيَّة للتطرّف على النسيج الاجتماعي العراقي

آراء 2019/12/16
...

د.عبد الواحد مشعل
لا يمكن فهم الآثار الاجتماعية للتطرّف الديني والاجتماعي التي تظهر  في الشخصية العراقية في أحيان كثيرة في المواقف المختلفة، وهي ظاهرة تحتاج إلى تحليل أسبابها والأفكار التي  تقف وراء قناعة بعض الأفراد بها، فليس هناك فكر إنساني أو ديني أو راديكالي ثوري، يمكن أن يكون قاعدة أو مصدرا لها في الفكر الحضاري الإنساني الداعي للتحرر وللتعايش السلمي القائم على أساس التنوع الثقافي.
إنّما هي  تقع خارج العقل الواعي للإنسان، وخارج الإرادة البشرية الحرة، فالمسألة تنطلق من أفكار خارج كل ما يتصل بالحياة الطبيعية، هذا من حيث الأصل، أما من حيث ممارسة السلوكية فهي تحتاج إلى بحث علمي عميق في مجال علم النفس والانثروبولوجيا تحديدا، للوقوف على الآثار النفسية والاجتماعية التي تقع على بنية العقلية الثقافية العراقية في مفاصلها المختلفة. 
 
أهمية الدراسات العلميَّة
حظيت الدراسات النفسية والانثروبولوجية بأهمية مميزة من بين الدراسات التي تتصل بقضايا الإرهاب والتطرف، بعدها ظاهرة طارئة على الثقافة الإنسانية، ولاسيما الثقافة الإسلامية التي طالما لصقت بها هذه القضايا، ولاشك أنّ الإسلام، وكما يعرف الجميع، من الأديان المميزة التي تعمل على بناء الإنسان الحضاري المنتج المتسامح، ولكن الإشكالية التي يعنيها العالم الإسلامي ومنه المجتمع العراقي هي، فعل الافكار الغريبة عن ثقافتنا الاسلامية والتي برزت في الإرهاب المتمثل بالعمليات الإرهابية التي تستهدف الأبرياء بغض النظر عن انتماءاتهم الفرعية،  كتلك التي تقع في الأماكن العامة كالأسواق والمحلات العامة التي يتجمع فيها الناس دون موعد مسبق، فلهذه الظاهرة عواملها ومتغيراتها المختلفة التي تصنع هذا الفعل، إذن لا بدَّ أن تكون عوامل داخلية أي ذاتية تدفع الأفراد الى تبنيها أو الإيمان بها، وهي مسألة تقتضي الذهاب إلى تفسيرات الباحثين في مجال علم النفس، كما أن للظاهرة عواملها الخارجية المؤثرة في صناعة هذا الفعل، ولا شك أنّ للمتغيرات الثقافية كجانب اكتسابي له بعد خطير في تشكيل قناعة بعض الافراد بها، وإصرارهم على هذا الفعل الذي يتنافى أصلا مع أصل التكوين الثقافي والحضاري للمجتمع العراقي خلال التاريخ، إلّا أنّ إشارة بعض الباحثين الى فترات تاريخية برزت بها الأفعال المتطرفة في مواقف مختلفة أريقت فيها كثير من الدماء خلال فترات كثيرة من التاريخ العراقي الى الوقت الحاضر، ما بات يتطلب فعلا إجراء دراسات معمقة، ولاسيما دراسة وتحليل اثر العوامل الأيكولوجية للتنوع المناخي والتكوين الطبيعي العراقي في تكرار الظاهرة خلال التاريخ، وربط ذلك بمتغيرات كثيرة كأساليب التنشئة الاجتماعية، المنبثقة من البيئة القبلية أو تكوين الشخصية في المناطق الشعبية في المدن القائمة على العلاقات المباشرة (علاقة الوجه بالوجه)، وما يتخللها من فرض الإرادات الفردية على الآخرين (كظاهرة الأشقياء في المدينة العراقية القديمة)، وكذلك بظاهرة هجرة الريفيين الى المدن، وعدم قدرة المدينة على إدماجهم كليا في نسيجها الثقافي مما ادى الى ظهور في كثير من أحيائها تجمعات عشائرية سعت الى إظهار خشونتها تجاه سكان المدن الأصليين (الحضريين)، ما ولّد صراعا نفسيا وثقافيا بين المناطق الحضرية ومناطق التجمعات الشعبية فيها، ثم حالة الانتقال الى مرحلة الفضاءات المفتوحة الحديثة من انتشار وسائل الاتصال الحديثة وازدياد ظاهرة انتقال كثير من أبناء المناطق الشعبية أو أبناء التجمعات العشائرية الى مناطق أصل المدينة التي كانت توصف بالحضرية ما  رافق ذلك تكسر الحواجز بين المنطقتين التقليديتين (الشعبية والحضرية).
 
أسباب ودوافع ذاتية وثقافية
 إنّ الدوافع التي تقف وراء الظاهرة سواء منها دوافع نفسية أم دوافع ثقافية، انما تعود من حيث الاصل الى طبيعة التكوين الثقافي للإنسان، فهو بحد ذاته كيان اجتماعي وثقافي تتشكل بنيته العقلية بناءً على نوعية أساليب التربية الأسرية والمجتمعية معا، والذي تتشكّل على ضوئها توجهاته الفكرية والعقائدية، وهي مسألة لا بدَّ من الوقوف عليها لمعرفة الكامن والظاهر في هذا التأثير في سلوك الافراد الذين يمتلكون القدرة الذاتية للقيام بالأعمال التي تتنافى مع الطبيعة البشرية، وتقع خارج سياقات التطور الحضاري التعاوني والتنافسي الشريف ويدخله في خانة الصراع السلبي مع الآخر، وهو ما يمكن اعتباره غريبا ومرفوضاً بسبب ما يحمل الأفراد الى الكراهية، ويعمل على تفكك النسيج الاجتماعي وهو ما يوصف بأنّه خارج سياق الفعل الحضاري الايجابي.  
إنّ ظاهرة التطرّف لا تقف على الثقافة الإسلامية فقط إنما هي ظاهرة اجتماعية عامة تظهر في مجتمعات وثقافات متعددة، فهي تظهر عند اليمينيين في أوروبا ضد المهاجرين أو ضد الأجناس الأخرى، فهي قد تكون ذات دوافع دينية أو سياسية أو اقتصادية، إلّا أنّها تدور في خانة تأجيج الكراهية ضد الآخر دون أن تكون هناك مبررات مقنعة.
 
آثار نفسيّة واجتماعيّة
في عالم غير مستقر يهدده الإرهاب في كل لحظة، وعالمنا العربي معرض لهذا الخطر، كما أن مجتمعنا العراقي الذي يمر بفترة مهمة من تاريخه المعاصر يتعرض يوميا إلى إرهاب منظم يملك أجندات مختلفة ولكنها جميعا تستهدف الشخصية والثقافة العراقية، فالآثار الاجتماعية التي يتركها التطرف في نفسية الأطفال والنساء والرجال خطيرة، لاسيما إذا بقيت متفاعلة في حياة الإنسان المستقبلية ولاسيما مع التراجع الحضاري الذي أصاب المجتمع في المرحلة الحالية، مما  يهدد مستقبل المجتمع ويؤثر بشكل فعال على عملية التنمية والتقدم الحضاري. وهذا الاستنتاج لا يخرج  عن سياق التفسير العلمي لأسباب  الظاهرة، ما ينعكس ذلك على الحياة الاجتماعية ويعرقل برامج ومبادئ التعايش السلمي، مما يتطلب من القائمين على الأمر العمل من اجل إرساء قواعد اجتماعية وثقافية تأخذ المجتمع الى بلورة ثقافة ايجابية متسامحة تجمع الجميع يكون المشترك بينها الانتماء الوطني، ولعل طلائع ذلك بدأت تظهر في ثقافة الأجيال الصاعدة، ما يتطلب من الدولة التفاعل معها من اجل بناء حياة مدنية منتجة عن طريق تبني طريق التنمية والبناء.