الدكتور مصطفى جواد.. حامل أسرار بغداد ومؤرّخها التنويريّ

بانوراما 2019/12/16
...

حسين محمّد عجيل
اعتادت الأمم والشعوب الحيّة أن تحتفي برموزها الأدبيّة والثقافيّة، وكبار فنّانيها وكتّابها ومؤرّخيها، وتعقد لأجل إحياء ذكراهم المهرجانات، وتقيم المؤتمرات، وتعلن المسابقات وكبرى الجوائز. وكذلك تفعل العواصم والمدن التي لها تاريخ حافل، إذ ترفع لعظماء أبنائها، وخصوصاً أولئك الذين ارتبطت حياتهم ومنجزهم بها، التماثيلَ في الميادين العامّة، وتطلق أسماءهم على الشوارع والساحات وقاعات الجامعات والأكاديميّات، وتجعل من بيوتهم مزارات ومتاحف.. ليظلّوا الأمثولة الحيّة والملهمة في وعي مواطنيهم. 
فلماذا تخلو بغداد إذن من تمثال يخلّد ابنها الجليل، العلّامة الدكتور مصطفى جواد (1906 - 1969) أو جائزة كبرى باسمه، أو حتّى احتفال يحيي ذكرى اليوبيل الذهبيّ لرحيلــه، الذي يصــــــادف اليوم الثّلاثاء 17 /12 /2019، وهو عالِمُها الفذّ، ومؤرّخها التنويريّ، ولغويّها الشهير، وخططيّها الأبرز؟ 
وما كنت أتمنى طرح هذا التّساؤل الموجع في مثل هذا اليوم، بما ينطوي عليه من مرارة وغصّة، لو لم تكن له دلالات خطيرة على مدى تجاهل الحكومة، ولا مبالاة المؤسّسات، وتقصير المثقّفين، وجحود التلامذة، خصوصاً حين يكون الأمر متعلّقاً بعَلَمٍ عراقيّ كبير، كان له منجز نوعيّ ثرّ، ومكانة سامية في أوساط الأدباء والكتّاب والباحثين والأكاديميّين والمجمعيّين في العالم العربيّ كلّه، فضلاً عن مكانة أثيرة في وجدان مواطنيه من أبناء الشعب، لم ينلها قبله أيُّ مثقّف عراقيّ، حقّقها بفضل هذا المنجز علاوةً على عاملين آخرين: أوّلهما اشتغاله في التعليم طوال 45 عاماً، من الابتدائيّ، مروراً بالجامعيّ، وانتهاءً بالعالي، حتّى تخرّجت على يديه أجيالٌ من المعلّمين والمدرّسين، والآلاف من الكفاءات العلميّة. وثانيهما ريادته للإعلام الثقافيّ في البلاد عبر برامجه المتعدّدة في الإذاعة والتلفزيون، ونجاحه في جعل مجالات نخوبيّة في العادة كالتاريخ وعلم الخَطط واللغة، تحظى باهتمام شعبيّ جارف، وهذا الأخير كافٍ وحده ليضعه في عداد الخالدين. 
 
تعلّقٌ صوفيّ ببغداد  
لقد تعلّق وجدانيّاً ببغداد، بكلّ ثقلها الحضاريّ، ذلك المنحدِرُ من أسرة تُركمانيّة أصلها من قرة تبّة في كركوك، والمحترفُ والده الخياطة في عاصمة بلاده لعقود قبل ولادته، فكان أن تبغددَ النّجلُ مصطفى حتّى النّخاع، واتحد عالمُه وفضاءاته كلّها بتاريخ مدينته الخالدة، متحرّياً أوابدها في خبايا المخطوطات العربيّة القديمة وكتب الرّحالة والمستشرقين، ومنقّباً في ثنايا دروبها وأسواقها ومساجدها عما تبقّى من شواخص حضارتها، وكتب في كلّ ذلك، على مدى نصف قرنٍ، آلافَ الصفحات بين تأليفٍ وتحقيقٍ وترجمةٍ ونقدٍ وتعريفٍ ومحاضراتٍ وأحاديثَ إذاعيّةٍ أو تلفزيونيّةٍ، فصار حامل أسرار عاصمة العبّاسيّين، ومرجعاً للجميع في تاريخها ورجالاتها وخططها وكلّ معلم بارز فيها وإن طمس آثاره الزمان, فقد ولد في محلّة عَقْد القُشَل منها، بين سوق الهيتاويّين ومخفر قاضي الحاجات، وهي محلّة المأمونيّة في العصر العباسيّ كما اكتشف في دراساته الخَططيّة اللّاحقة، وكان محلُّ والده يقع في سوق الخيّاطين المجاور لخان مَرْجان، الذي درس مصطفى جواد تاريخه وعمارته فيما بعد، والذي اتخِذ متحفاً للآثار الإسلاميّة قبل نقل كنوزه إلى المتحف العراقيّ بعد اكتماله في السّتينيّات من القرن الماضي. وأمضى مصطفى جواد سنواتٍ من عمره المبكّر طالباً في المدرسة الجعفريّة الأهليّة، الواقعة بقرب مئذنة سوْق الغَزِل في جامع الخلفاء اليوم، التي درسها أيضاً، وعدّها الجزء المتبقّي من جامع الخليفة في عصور خلافة بني العبّاس، وكانت واحدة من المثابات التي بنى عليها تصوّراته الخَططيّة لبغداد العبّاسيّة...
 
بحثاً عن المدرسة النظاميّة
كتب مطلع سنة 1942 عمّا كان يواجهه من مصاعب في محاولاته للكشف عمّا زال من شواخص عمران مدينته القديمة، ومن أبرزها المدرسة النظاميّة، قائلاً: "وخَططُ بغداد القديمة من أصعب المواضع وأعسرها علاجاً وأوعرها طريقاً وأحوجها تحقيقاً؛ لزوالِ معالمها وآثارها، وعفاءِ معاهدها وديارها، وتعاقبِ الأحداث والمصائب عليها، وتشعيثِ الماء لها، فالإنسانُ والطّبيعةُ متفقان على إزالتها، ولم يسلَم منها إلّا الذي تحدّى سلطان الدّهور، وقاوم طغيان المياه، وتفصّى من معاول الجُهّال". 
وبعد أن حدّد بأدلّة قويّة، موقع المدرسة الجغرافيّ من بغداد، بقوله "إنّ المدرسة النّظاميّة كانت في محلّ الأسواق المعروفة اليوم بأسواق الخفّافين ببغداد، المحصورة بين سوق الكمرك والسّوق الثّاني للبزّازين، وبابها كان في محلّ باب السّوق المقابل لخان الباججي من سوق الكمرك"، ذكر أنّه أمضى عقداً كاملاً في محاولة تحديد موقع هذه المدرسة ذات التّاريخ الحافل: "هذا ما أردنا الإبانة عنه من تحديد موضع المدرسة النّظاميّة، وقد أعملنا فيه الرّويّة وتحقّقناه في مدّة أكثر من عشر سنوات؛ لأنّ مدرسةً كالنّظاميّة زالت آثارُها، وقلّت في تحديدها أخبارُها- على تخرّج مئات علماء فيها- تستوجب بحثاً مداركاً مستداماً، وتحقيقاً يرخص من أجلهما ثمنُ الزّمن".
وعلى هذا النحو، ارتبطت كلّ مفاصل حياة مصطفى جواد ومنعطفاتها ببغداد، فجذبته هذه المدينةُ الساحرة إليها جذبةً لا فكاك منها، وظلّ مشدوداً إليها في سنيّ مجدها وأيّام نكباتها، وكان وهو يتنقّل دارساً أو مدرّساً أو محاضراً أو سائحاً، في مدن كبرى لها تاريخ مجيد كالقاهرة وباريس ولندن واسطنبول، مأخوذا بوقائع مدينته عبر القرون، فقضى سحابة عمره منشغلاً ومشتغلاً في تاريخها الباهر، وشاغلاً النّخبَ والتّلامذةَ وربّاتِ البيوت ومرتادي المقاهي.. بأطوارِ تقلّبها بين مدّ إشعاعيّ تارةً، واندحار أمام غزوات أخرى، لا تلبث بغدادُ أن تنبعث منها في كلّ مرّةٍ مدينةً زاهرة.. 
 
غارس الوعي بتاريخ البلاد 
لقد كان مصطفى جواد مؤرّخاً أصيلاً، تمكّن بمعرفته وحدسه، من غرس الوعي بتاريخ البلاد في أذهان أبنائها، ونقل قضايا التّاريخ العراقيّ وأحداثه إلى حياة النّاس اليوميّة، بعد أن تفحّص كلّيّاته وجزئيّاته من زوايا متعدّدة في كتبه وأبحاثه ومقالاته ومحاضراته وأحاديثه، فتناول أطواره المتعاقبة في برامجه الإذاعيّة، وكذلك في ظهوره التّلفزيونيّ الأسبوعيّ عبر برنامج "النّدوة الثّقافيّة"، وكان الحاضرُ وما يخفي وراءه من زمان مجهول الماهيّة، هدفَه الأخيرَ من كلّ ذلك الاستحضار التّاريخيّ الدّائب، بالضّبط كما فعل حين ربط- من النّاحية الخَططيّة- بين ماضي بغداد العبّاسيّة وحاضرها في زمانه، ورأى من ولع النّاس بذلك ما شجّعه على المضيّ بخطّته هذه المتعددة المرامي. وكان يرى أنّ "كتابة التّاريخ أصبحت تعتمد على التّحرّي الدّقيق، وعلى حريّة العقل والقلم، وسلامة التّفكير، وصدق التّحليل، والتجرّد من الهوى والمجازفة، والبعد عن التعسّف والتّخليط". ويستدرك بالقول "وليس ذلك بالهيّن على الحاقد.. ولا هو من المباح في عصور الجهلاء من الملوك، ولا من الممكن في الشّعوب الجاهلة". 
وقد قال في وثيقة له، مفسّراً ميله إلى التّاريخ على حساب اللّغة، حين قدّم أطروحته إلى جامعة السّوربون بباريس سنة 1939، مبيّناً إدراكه للدّور الذي خطّط للنهوض به طوال حياته: "وأمّا مَيْلي إلى التّاريخ، فلأنّه خيرُ مُرَبٍ للأمم الضّعيفة كالأُمّة العراقيّة، ولأنّه قلّما عالجه باحثٌ غيرُ عاطفيّ- كما أدّعي لنفسي- فضلاً عن التّقصير في البحث، والخَطَل في التّعليل، والخَلْط في التّحليل عند من كتبوا في هذا الفنّ". 
 
دور المؤرّخ التنويريّ
وكان من أبرز مزايا مصطفى جواد أنّه كان يوظّف معرفته وثقافته التّاريخيّة الموسوعيّة لتكون دروساً للحاضر مجرّدةً من النّصح المباشر، وفي ضمن هذا التوجّه التقط من تاريخ العراق في العصر الوسيط، في أولى مقالاته المنشورة بمجلّة (المعلّم الجديد) البغداديّة في شباط 1938، أُنموذجاً بِكْراً لم تُسلّط عليه الأضواء بما يكفي، هو الخليفة العبّاسيّ المقتفي لأمر الله، محاولاً أن يقدّمه شخصيّةً تُقتدى، يُلهم بها الملكَ الشّابَّ الطّموحَ غازي الأوّل وساسةَ البلاد في عهده، عسى أن تكون تجربته السّياسيّة والثّقافيّة حافزاً لهم على الاقتداء والتمثّل، فقال في تلك المقالة المعنونة "ازدهار الثّقافة في العراق على عهد المقتفي لأمر الله"، واصفاً حال البلاد في عهده، القريبة الشّبه بحال العراق وأوضاعه في ثلاثينيّات القرن الماضي الخارج من احتلال طويل، والمتطلّع إلى تعزيز استقلاله: "في عهد الإمام المقتفي لأمر الله نال العراقُ استقلالَه التّامّ، وزال منه حكمُ بني سلجوق وحكمُ أتباعهم، واستسعد النّاسُ بالأمن والرّخاء والحريّة والاطمئنان في أموالهم وتجاراتهم وأملاكهم ومعاملاتهم، وكان هذا الإمامُ فخر بني العبّاس ومحيّي دولتهم بالعراق، ذا سياسةٍ عجيبةٍ وشجاعةٍ داهشة، قاد الجيوش، وحضر الوقائع، وألِفَ الحرب، وقاتل أعداء الدّولة وغاصبيها حرّيّتها، حتّى بدّد شملَهم وطردهم من العراق"، ثمّ أردف مبيّناً جانباً آخر مشرقاً، لا تتكامل صورة الدّولة النّاهضة إلّا به: "وفي عهد هذا الخليفة العظيم أُسِّست «المدرسة الكماليّة»، و«المدرسة الثّقتيّة»، و«المدرسة الفخريّة»، و«مدرسة ابن دينار»، و«مدرسة أبي نجيب السّهرورديّ»، وألّف وزيرُه الذي ملأ تاريخ الوزراء مجداً وعظمةً، أبو المظفّر عون الدّين يحيى بن محمّد المعروف بابن هُبيرة، كتباً منها «الإفصاح عن معاني الصّحاح» في عشر مجلّدات.. وهذا الوزير أيضاً بنى مدرسةً بباب البصرة من بغداد سنة 557هـ، ورتّب فيها التّلاميذ".
وعرّج على الانفتاح في ذلك العهد، وما شهده من تسامحٍ واحترام للتّعدّديّة الدّينيّة وحقوق الأقليّات والنّساء، وفتح المجال لبروز المرأة، بقوله: "وتاريخ الثّقافة اليهوديّة يذكر للخليفة المقتفي لأمر الله بالتّعظيم والإجلال، فإنّ اليهود كان لهم ببغداد على عهده عشر مدارس، ذكرها العالِم اليهوديّ بنيامين التّطيليّ في مجموعه عن أحوال اليهود في القرن السّادس للهجرة، جمعه وجعله مرجعاً مهمّاً لتاريخهم... وفي عهد المقتفي لأمر الله نبغت فخرُ النّساء شَهْدةُ الكاتبةُ بنتُ أبي نصر أحمد الأبريّ، زوجة أبي الحسن علي بن محمّد الدّوينيّ، الذي نال من الإمام المقتفي لقب «ثقة الدّولة» وبنى «المدرسة الثّقتيّة»".
 
أنموذج الحكم الرشيد
وهو لم يختر متتبّعَ خُطا المقتفي، أعني به الخليفةَ النّاصرَ لدين الله، (وكان المقتفي جدّه الرّابع) محوراً لرسالته الجامعيّة في السّوربون، إلّا حين وجد في عهده شيئاً من حريّة الفكر، ولما لمس من بعده عن التّعصّب، ولا سيما المذهبيّ، الذي كان أطاح بالدّولة وبدّد طاقات المجتمع، ولما رأى من همّته للنّهوض بها من كبواتها المميتة، معتمداً على الكفايات والقابليّات في اندفاعته بهذا المشروع، وجنوحه لإشاعة العلم ورعاية العلماء والمتعلّمين، وسعيه لتوظيف ذكائه وقدرات الدّولة في إشاعة العدل، وترصين الانسجام الداخليّ بين فئات المجتمع ومكوّناته، التي طال اتقاد نار تنافرها، واحتدم الصّراع الدمويّ بينها، بدفعٍ من دُعاة فتنةٍ ودولٍ يهمّها إدامة التّنافر والصّراع.. وتخطيطه لتقوية الجيش والبطش بالمفسدين، وإنهاء بوادر الطائفيّة ودعاتها، ونزوعه للاستقلال، وإنهاء كلّ مظاهر التّبعيّة لسلاطين الدّول المحيطة من سّلاجقة وغيرهم، فضلاً عن أمراء الأطراف، السّاعين لبسط سيطرتهم العسكريّة أو الرّمزيّة على مقدّرات الخِلافة ببغداد.. وهي سياسة أثمرت عن عمران البلاد، ونشرِ شيءٍ من الأمن في ربوع الدّولة والطّمأنينة بين مواطنيها من كلّ انتماءاتهم إلى حين. ولو أنّ من خلفوه واصلوا سياسته هذه وسياسة جدّيه القريبين المسترشد والمقتفي، بقوّة وحكمة، لتُصبح منهجاً يحكمون بموجبه، وارتقوا بالدّولة أشواطاً أبعد، لربّما كانوا جنّبوها ذلك السّقوط المدوّي والمرعب على أيدي المغول سنة 656هـ- 1258م. 
أليس هذا المثال الذي قدّمه مصطفى جواد من زمن ماضٍ، تبعدنا عنه نحو ثمانية قرون، هو نفسه الذي ما زال يتكرّر بجُلِّ عناوينه في عصرنا هذا، وما زال المجتمع العراقيّ يعانيّ من عدم اكتمال أنموذجِ حكمٍ رشيد، يتحقّق من خلاله ترقّيّه المنتظر، بعد تجارب مريرة خاضتها وما زالت أجيالُه المتلاحقة؟.