رزاق عداي
الديمقراطية، كما هو معروف، ليست ايديولوجيا، هي نظام للحكم فحسب، يستند بالتعريف الاغريقي الاول لها، على حكم الشعب بواسطة الشعب، ولأنّ هذا التحديد يعبر عن إرادة شعبية عريضة، فهو الشكل المفضل بالمقارنة مع اشكال حكم اخرى، استبدادية، دكتاتورية، شمولية.
ليس بالضرورة أن تتكلل التجارب الديمقراطية بالنجاح والتقدم، فقد ينتهي النظام الديمقراطي الى فوضى، او الى انهيار للدولة، او الى نظام ديكتاتوري فاشي.
كما حصل في انتخابات الرايخ الالماني في عام 1933 التي اوصلت -هتلر- الى الحكم، او تجربة اسبانيا في منتصف ثلاثينات القرن الماضي التي أفضت الى حكم الجنرال -فرانكو-، او تجربة شيلي في عام 1973 التي انتهت بمأساة.
وفشل الديمقراطيات لا يتأتى حتما من عوامل تخص الديمقراطية ذاتها، انما من عوامل خارجية قد تحيط بها في مرحلة التأسيس لها اولا ثم تبرز لاحقا كمثبطات وعوائق، تدمر أسسها، وتسقطها في دائرة الفشل.
تجربة الديمقراطية في العراق، بعد سقوط النظام السابق، يصفها البعض بالناقصة او العرجاء، او حتى الفاشلة، ويجد المدافع عنها، صعوبة في دحض هذه الادعاءات، لكثرة الادلة والقرائن التي تواجهه وعلى كل المستويات، فرغم ان التجربة للعملية السياسية قد تلبست اطارا ديمقراطيا، الا ان تبدياتها العملية شابتها تقاطعات وانحرافات مخالفة مع المسمّى الديمقراطي، فعملية الاقتراع التي تعد الاجراء التاريخي للديمقراطية لم تنتج مخرجات التي تبلغ المستوى التمثيلي للديمقراطية، فالانتخابات (بنسختها العراقية تلاحقها تهمة التزوير تارة وتارة الدفع الطائفي، ثم قانونها ومفوضيتها المشكوك بهما) ما عادت بمستوى النزاهة والتمثيل الحقيقي، هذا ناهيك عن ان صندوق الانتخاب لم يعد معولا عليه تماما في بلدان الديمقراطية العتيدة، لانها اي الديمقراطية في الاحقاب الاخيرة صارت تقيم كسلوك حضاري، وثقافة مجتمعية اكثر منها اطارا
شكليا.
من خصوصيات التفرّد في التجربة الديمقراطية العراقية انها ارتبطت وثيقا مع مسار سياسي سابق لـ 2003، ألقى ثقلا على معطيات ما بعد هذا التاريخ.
أسوأ ما في ديمقراطية العراق انها كانت وليدة احتلال اجنبي -اميركي، فكانت لهذه الولادة استعدادات ونوايا تكمن في عمق الاستراتيجية الاميركية، فشكل النظام وخريطة الديمقراطية رسمت جميعها قبل سقوط النظام السابق، فوضعت ديمقراطية العراق في زمن تصدير الديمقراطية الاميركية، وهي مفردة من ضمن بنود، واستراتيجيات النظام الدولي الجديد، الذي اعقب الحرب الباردة، كمفاهيم، الشرق الاوسط الجديد، والفوضى الخلاقة، التي تبنّتها الماكنة الفكرية الاميركية آنذاك، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، وبروز اميركا كقطب قوي واحد في العالم، فلما باشرت اميركا باعادة بناء الدولة العراقية بعد سقوط النظام السابق، كانت قواعد بياناتها عن العراق ناقصة.
فمدركات اميركا للبيئة المجتمعية للعراق من طوائف واعراق ومذاهب ليست بالمستوى المطلوب للشروع في بناء دولة للعراق على مشارف القرن الحادي والعشرين، فلو اننا قارنا النهج الانكليزي الذي عمل على بناء دولة العراق في عام 1921 لوجدناه اكثر كفاءة في ابراز جانب المواطنة في العراق انذاك، منه في النهج الاميركي في 2003 الذي كرّس الطائفية والعرقية في تشييد هيكل الدولة، فأميركا استندت الى مبدأ خاطئ يصور المجتمع العراقي في العهد السابق وفقا لمفهوم الظلم والاستئثار لمكونات المجتمع العراقي، اذ غاب عنها الفهم ان صدام حسين لم يكن الا دكتاتورا غاشما وزّع تعسفه وبطشه على كل ألوان الطيف
العراقي.
فالخطوة الاولى في الخطأ الاميركي تجسّدت في بنية مجلس الحكم الذي اختيرت فيه العضوية بنسب محددة طائفيا وعرقيا حتى ان بعضا من اعضائه ممن يسمّون بالعلمانيين والبعض منهم من اليسار قد تم خضوعهم على وفق هذه المقاس.
بعدها كتب الدستور على عجالة وتضمن الكثير من الملغمات على غرار المادة الاولى والثانية والست والسبعين، والمئة واربعين.
لقد تعرضت العملية السياسية في العراق الى العديد من الانسدادات، خصوصا في السنوات التي شهدت انتخابات نيابية، وفي كل مرة تحدث خروقات بالدستور مما يتبع انتهاكات صارخة في صلب العمل الديمقراطي وصولا الى التظاهرات الاخيرة التي كانت فيها العملية السياسة تترنّح في ازمة ماحقة لم تشفع لها كل اساليب المماطلة والتسويف، التي استخدمت سابقا لتأجيلها او ارجائها، فكان سقوط الحكومة.
إنّ الانسداد الأخير يشير الى ان العملية السياسية لم تعد قادرة على الاستمرار لكثرة التراكمات القديمة، فلا منجز لها يذكر سوى ذنوبها العديدة، فهي تبدو فاقدة لقاعدتها الجماهيرية، بانت وكأنها تتحرك خارج
التاريخ.