يوماً بعد آخر، ومنذ انطلاقها في الاول من اكتوبر الماضي، تشهد حركة الاحتجاجات الشعبية اتساعاً واشتداداً أكثر فأكثر وبشكل لافت ، سواء على صعيد المشاركة الواسعة لأهالي بغداد في ساحة التحرير او في مشاركة طلاب واساتذة الجامعات والمعاهد والمدارس الثانوية والمتوسطة، فضلاً عن النقابات والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني ،
وقد امتد هذا الاتساع على الصعيد الوطني العراقي وبالمضامين والأهداف ذاتها الى مناطق محافظات الوسط والجنوب اكثر مما شهدته في السنوات الماضية
، بدءاً من العام 2011 .
وكان لافتاً هذه المرة ان مشاركة المحافظات الغربية كانت حاضرة بمختلف التعبيرات
، سواء بخروج تظاهرات شعبية متواضعة العدد او بمشاركة مواطنين من تلك المناطق بأعداد غير قليلة في ساحة التحرير ببغداد وذلك لأسباب أمنية وسياسية ، وقد عبرت تظاهرة انطلقت في الانبار بعد مذبحة الناصرية وهي تهتف (بالروح بالدم نفديك يا ذي قار).
تأكيداً للتضامن الوطني العراقي مع أبناء هذه المحافظة ومأساتها ، هذا في حين اكدت تظاهرات عدد من محافظات الوسط والجنوب تلاحمها وتضامنها مع حركة الاحتجاجات الشعبية في ساحة التحرير ببغداد وقد عبرت تظاهرة النجف التي وفدت الى بغداد يوم 10 كانون الاول الجاري عن ذلك بترديد أهزوجة (بغداد شدي حزامك أهل النجف
كدامك) .
اما على صعيد التأييد الدولي لاهداف وشعارات المحتجين والتنديد بأعمال القمع الموجهة ضدهم ، والتي جرى التعبير عنها بمواقف الامين العام للامم المتحدة ومبعوثته الى العراق بلاسخارت ودول الاتحاد الاوروبي، فضلاً عن مواقف بعض دوله الاعضاء كبريطانيا وفرنسا والمانيا والولايات المتحدة وكندا
واليابان .
وقد كان لافتاً ايضاً مواقف المؤسسات الدينية العراقية والدولية المؤيدة للحراك والمنددة بقمعه، كما تجلى ذلك بالمواقف المتتالية لمرجعية السيد السيستاني في النجف وموقف الكاردينال (ساكو) رئيس الطائفة المسيحية في العراق الذي عبر عن تأييده لحركة الاحتجاجات بزيارته ساحة التحرير
، اضافة الى تأييد اساقفة اربيل لهذا الحراك، فضلاً عن اعلان الكنيسة عن الغاء احتفالات عيد الميلاد(الكريسمس) ورأس السنة الميلادية هذا العام بسبب الاوضاع الراهنة ، و تصريح مطران القدس عطا الله حنا
بقوله " قلوبنا مع المطالب العادلة للمتظاهرين في العراق" في حين أعلن بابا الفاتيكان فرنسيس قبل نحو اسبوعين عن تأييده ببيان لمطالب المتظاهرين وتنديده بأعمال القمع الموجهة
ضدهم ..
وبالطبع، فان هذا الاتساع والامتداد الوطني العراقي وجغرافيته لحركة الاحتجاجات الذي ترافق معه التأييد الدولي بمختلف التعبيرات، فضلاً عن دعم وتأييد المؤسسات الدينية الاسلامية والمسيحية على الصعيدين الوطني والدولي لحركة الاحتجاجات
، انما يعود لمشروعية وأحقية الاهداف والمطالب التي يرفعها المحتجون والداعية للتغيير والاصلاح ومحاسبة حيتان الفساد وسراق المال العام في الطبقة السياسية الحاكمة وخارجها ، وبما يعني الدعوة لتغيير نهج السلطة والطبقة السياسية الممسكة بزمام الامور وممارساتها منذ 13 عاماً ، أي منذ التصويت على الدستور النافذ منذ ذلك العام
لاشك ان هذا الاتساع في حركة الاحتجاجات وامتدادها على الصعيد الوطني الى حد كبير وحصولها ، بسلميتها وتضحياتها ، على التعاطف والتأييد الدولي ، انما ينطوي على دلالات كبيرة مهمة ، وذلك بالرغم من عفويتها وبعض مثالبها وتباين الاراء حولها ، ومن تلك الدلالات : تعبيرها عن الرغبة العارمة لغالبية العراقيين ومن مختلف الانتماءات والمناطق للتغيير والاصلاح الحقيقيين ، وكذلك التعبير عن الهوية الوطنية العراقية الجامعة التي كادت ان تبددها الطروحات والممارسات المذهبية والطائفية والعنصرية للطبقة السياسية التي هيمنت على السلطة منذ 2005 ، خلق ثقافة مجتمعية وسياسية وطنية ومتنورة لهذا الجيل الشبابي والاجيال المقبلة تدعو للعدالة ورفض الظلم والاستبداد ومحاربة الفساد والفاسدين وتدعو للسيادة والاستقلال وعدم سرقة الوطن وتدعو لتقدم وازدهار وسعادة العراق وشعبه بتحقيق التنمية الحقيقية المستدامة وتوظيف أموال العراق وخيراته لمصلحة شعبه ، ببناء نظام تعليمي متطور ونظام صحي وعلاجي عصري وسليم وتوفير الخدمات الاساسية وحتى غير الاساسية لكل المواطنين ، وذلك عبر اقامة نظام سياسي ديمقراطي حقيقي لا مزيف ، يختاره الشعب بارادته الحرة والمستقلة ، فضلاً عما يتطلب كل ذلك من سياسة خارجية متوازنة مع دول العالم
الاخرى.
ان هذه الدلالات لحركة الاحتجاجات والثقافات الوطنية الجديدة المتنورة التي نجمت عنها ستشكل الخزين المعرفي والثقافي الذي يتوقع ان يبنى عليه العراق الجديد الذي انتفض العراقيون من اجل تحقيقه بالتضحيات الغالية ، مهما كانت مآلات هذه الاحتجاجات .