لعلَّ من إيجابيات الحراك الشعبي، المتمثل بالتظاهرات المستمرة منذ أكثر من شهرين، إنها أسهمت في رفع منسوب الروح الوطنيَّة لدى العراقيين، بنسب أعلى من المعدلات الطبيعيَّة، وقد تجسد هذا الأمر في الكثير من المسارات المهمة في الواقع، ومن بين الثمار المهمة التي أثمرتها شجرة التظاهرات، إطلاق حملة وطنيَّة واسعة لتشجيع الصناعة الوطنيَّة وتفضيل المنتج المحلي على المستورد، وهي مبادرة مهمة جداً لأنها ستسهم في إعادة الثقة بالصناعة الوطنيَّة، هذه الثقة التي تلاشت تماماً منذ أكثر من عقدين من الزمان، بعد أنْ أصيبت القاعدة الصناعيَّة، بحالة من الضمور الشديد، فاختفت منتجاتنا المحليَّة، بنحوٍ كامل، وما يظهر منها الى الناس فهو بحالة رديئة جداً، لا يمكنه منافسة الأجنبي، مع ارتفاع كلفته.
نعم.. الصناعة الوطنيَّة شهدت انحداراً حاداً في عقد التسعينيات على وجه التحديد بسب الحصار الاقتصادي الذي نخر الجسد الصناعي، إذ انخفضت مساهمة قطاع الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي الى أدنى مستوياتها، إذ وصلت الى أقل من (1 بالمئة).
وشهدت مرحلة ما بعد العام 2003 عدة محاولات لإعادة الروح الى صناعتنا الوطنيَّة، تمثلت بصدور مجموعة من القوانين المهمة مثل قانون حماية المنتج وحماية المستهلك والتعرفة الجمركيَّة وغيرها، ولكن مع إطلاق عمليات الاستيراد من دون ضوابط ، ومع تعطش المستهلك العراقي الى إشباع حاجته، جعل العراق أكبر سوق للاستيراد في المنطقة، الأمر الذي أسهم في حدوث حالة من الإغراق السلعي، تسببت بحالة انكشاف اقتصادي خطير أدى من جديد الى تحجيم الصناعة المحليَّة، وعدم قدرة المنتج الوطني على المنافسة، لا سيما مع وجود إرادات داخليَّة وخارجيَّة، كانت وما زالت تسعى لإبقاء البلد مستهلكاً.
والأمر هنا لا يقتصر على الواقع الصناعي، إنما الزراعة هي الأخرى كانت تعاني من عدم قدرتها على المنافسة، فقد كان الاستيراد يشمل كل شيء، ومع مرور الزمن، بدأنا نشهد خطوات وتحركات من الحكومة والقطاع الخاص، باتجاه حماية المنتج الوطني، فصدرت العديد من القرارات الحكوميَّة، واتخذت الوزارات خطوات مهمة بهذا الشأن، فكان من نتاج ذلك أنْ نجح العراق في النهوض بواقع صناعة الاسمنت، الذي يعد من افضل الأنواع في العالم، فمنذ عدة سنوات لم يعد البلد بحاجة الى استيراد الاسمنت لأنَّ إنتاجنا المحلي الذي يصل الى أكثر من ٣٠ مليون طن يكفي لسد كامل الحاجة المحليَّة، فضلاً عن وجود منتجات صناعيَّة وزراعيَّة
أخرى.
وقد أعلنت وزارة الزراعة مؤخراً منع استيراد أكثر من 20 منتجاً زراعياً لأنَّ المتوفر منها يكفي لتلبية الاستهلاك المحلي، وقبل ذلك اتخذت لجنة الشؤون الاقتصاديَّة، قرارات أخرى قضت بمنع استيراد عددٍ من المنتجات ومنها العصائر والمياه والمشروبات الغازيَّة وغيرها، ومع كل يوم يمر، نجد منتجاً جديداً يدخل الى السوق، ونشير هنا الى صناعة الألبان والأدوية وغيرها، ومن الإجراءات التي أسهمت في حمايَّة السوق العراقيَّة وضبط إيقاع الاستيراد العشوائي، هو التعاقد مع شركات عالميَّة تتولى عمليَّة الفحص المسبق للسلع والمنتجات المستوردة في بلد المنشأ، للتأكد من مطابقة المستورد للمواصفة
العراقيَّة.
ولكنْ، ومع انطلاق حملة تشجيع المنتج المحلي، هل أنَّ الواقع الصناعي الحالي يلبي الطموح؟.. بالتأكيد لا، إذ ما زال العراق بعيداً جداً عما يجب أنْ يكون عليه، على الأقل الوصول الى تشغيل جميع المعامل والمصانع المختلفة المتوقفة، التي ينوف عددها على 20 ألف معمل ومصنع، الكثير من هذه المصانع يتوافر على بنى تحتيَّة، وفي مجالات مختلفة، ومن بينها صناعة السيارات والمكائن، ولدينا مصانع أخرى لصناعة الأجهزة الكهربائيَّة بعضها يعمل، ولكنْ بحاجة الى تطوير وتوسيع.. نهيمن على القاعدة الصناعيَّة المتوفرة لدى القطاع الخاص.
وحقيقة الحال، انَّ المؤهلات الصناعيَّة والزراعيَّة المتمثلة بوفرة المواد الأوليَّة وخصوبة الأرض، والتكامل المناخي والبيئي، فضلاً عن الموارد البشريَّة الهائلة والمتعلمة، كلها مجتمعة، يمكن من خلالها أنْ نحقق نهضة صناعيَّة وزراعيَّة هائلة في العراق.
نعم، مطلوب منا أنْ نشجع صناعتنا الوطنيَّة، وأنْ نفخر بها، ولكن قطعاً الكلام وحده لا يكفي، إنما يجب أنْ نترجم الكلام الى خطط واقعيَّة، تستند في خطوتها الأولى على تأهيل البنى التحتيَّة للصناعة الوطنيَّة، وتوزيعها وفق خريطة متكاملة تغطي كل أرجاء الوطن، بناءً على توفر المواد الأوليَّة وإنتاج المحاصيل الزراعيَّة، وبما يسهم في تحقيق التنمية المكانيَّة والمحليَّة في جميع المحافظات والأقضية والنواحي والقرى والأرياف، لأنَّ مثل هذه السياسة، من شأنها أنْ توفر استقراراً سكانياً وأمنياً واقتصادياً، إذ لن يكون الشاب مضطراً للذهاب الى محافظة أو منطقة أخرى، للبحث عن فرصة
عمل.
إنَّ إعداد الخريطة الصناعيَّة التي نتحدث عنها، ليس بالأمر الصعب أو المعقد، فثمة الكثير من الخطط والستراتيجيات الموجودة التي ربما تحتاج الى بعض التعديل وتصحيح بعض مساراتها، لكي تنسجم مع تطلعات ورغبات العراقيين الذين أطلقوا حملة لتشجيع المنتج الوطني، إنما الأهم من ذلك هو تنفيذ هذه الخريطة التي تتطلب بالدرجة الأساس وجود إرادة سياسيَّة قويَّة متوازنة لتحقيق نهضة صناعيَّة وطنيَّة نفخر بها، تأخذنا الى مستقبل افضل، بدل العودة الى الماضي للبحث عن صور لمنتجات قديمة أنتجتها مصانع عراقيَّة لم تعد موجودة.
وملاحظة أخيرة: منتجاتنا الوطنيَّة ذات جودة عالية، إلا أنها تفتقر الى العنايَّة بمظهرها، فالمشكلة إننا ما زلنا بحاجة الى تطوير قدراتنا في عمليات الترويج والتسويق، إذ ليس من المنطق أنْ نصدر التمور الى بلدان أخرى ثم نعود لاستيرادها بعد تعبئتها بعلب وأكياس جميلة مغرية!. أليس
كذلك؟