دوافع الاحتجاج بين الوعي والثقافة

آراء 2019/12/20
...

مالك مسلماوي
 
 العلاقة بين الوعي والثقافة علاقة متأصّلة كونهما نتاج فعالية عقلية تنتج عن طبيعة المعرفة والخبرات المكتسبة من الدرس العلمي والقراءة والحوار والتفاعل مع الظواهر الاجتماعية، ولكل منهما اثر في السلوك والمناشط المتعددة في الحياة .. وغالبا ما يعبر احدهما عن الاخر، فيعد الانسان المثقف واعيا والعكس صحيح، وكل منهما يلد الآخر، هذا هو السائد في النظرة الاجتماعية والخطاب الادبي والسياسي، فإلى أي مدى يصح ذلك؟.
من معاني الوعي في المعاجم اللغوية هو الفهم والادراك، وفي علم النفس هو شعور الكائن الحي بما في نفسه وما يحيط به (معجم الوسيط). وجاء في (لسان العرب)، «الوعي حفظ القلب الشيء، وعى الشيء والحديث يعيه وعيا وأوعاه حفظه». اما الثقافة العامة: فهي مجمل العلوم والفنون والآداب في اطارها العام (معجم الوسيط)، وثقف الرجل ثقافة اي صار حاذقا خفيفا .. (لسان العرب).في هذه الفرصة أريد أن أقوم بعملية فرز بين المصطلحات والمفاهيم المتداولة على ضوء ما افرزته اللحظة الحاضرة وما استجد على ارض الواقع من حراك شعبي كبير في وسط وجنوب العراق مما اصطلح عليه بالانتفاضة او الثورة الشاملة التي لم يشهد لها العراق والمنطقة مثيلا في العصر الحديث من حيث سعتها كونها شملت كل طبقات وفئات المجتمع من البسطاء والنخب والفقراء والاغنياء والكبار والصغار رجالا ونساء من متعلمين وأميين ومن سياسيين ومستقلين ومن مختلف الديانات والمذاهب ... 
ومن حيث قوتها وزخمها جسامة التضحيات واعداد الشهداء والجرحى والصبر ومواجهة التحديات والظروف الصعبة التي لم تثنها عن المواصلة بل التصاعد المستمر على الرغم من العنف المضاد والقمع الممنهج.
    اما من حيث طبيعتها فشعارها (السلميّة) قولا وفعلا .. وهي ذات هوية (وطنيّة) ترفع العلم العراقي وتذوب فيها كل الانتماءات والهويات الاخرى، الامر الذي جعلها تعد الثورة الكبرى على امتداد تاريخ العراق حتى انها تخطت – في كثير من الحسابات - ثورة  1920 التي تختلف معها في الطبيعة والاهداف والاسلوب.
إنّ العامل المحرك للثورة هو وجود (وعي جديد) تفجّر عن تراكمات وضغوط سياسية ومجتمعية كثيرة حصلت بعد انهيار شامل في مؤسسات الدولة وشيوع ظواهر الفساد في مفاصل الحياة كلها.. وكان الفاعل المؤثر في اطلاق وتنمية هذا الوعي هو الانفتاح على العالم الخارجي عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي الذي فتح الفضاء على الرأي الحر وطرح الاسئلة التي تبحث عن اجابات بين فئة الشباب المتطلعين الى حياة كريمة في وطن غني بالخيرات والموارد البشرية والاقتصادية.. فهي ثورة الشباب اليافع الذي قدّم الانتماء الوطني على الانتماءات الاخرى، هؤلاء الخارجون على عوامل الاستسلام والخوف والاعراف الموروثة في الاستكانة والقبول بالمصير الذي تحلى به الجيل السابق والاجيال المتعاقبة.. هذا الجيل الخارج من الابوية القانعة والايديولوجيا المهيمنة منذ أمد بعيد. فكان أن نعت بالجيل المتمرد استخفافا وجيل الانترنت و(البوبجي) والالعاب الالكترونية، ولكن ما حصل كان مفاجئا وصادما لقوى اليمين واليسار على حد سواء وكل المراقبين هي ثورة يتقدم فيها الصغار الكبار.. جيل – مع انه غير قارئ وبعيد عن الكتب والمكتبات - بات في أعلى مراتب الوعي والاحساس بالغبن والخسارات على جميع المستويات فنهض بشجاعة ليكشف ويشخّص ويضع الحلول الجديّة للازمات التي اطبقت على البلد. 
والحقيقة أنّ الحراك الشعبي ناشئ عن ردّات فعل عفوية ناتجة عن سوء الواقع وتفشي مظاهر الفساد في مؤسسات الدولة كافة، ومعنى كونها عفوية انها لم تكن بتوجيه من (الخارج)، اي لم تكن خاضعة لسلطة سياسية او ايديولوجية، انما هي نابعة من معاناة جميع فئات المجتمع.. اذن هي - بالأساس- ثورة وعي بامتياز وليس للثقافة فيها الدور الحاسم، فهي ليست ثورة مثقفين او انها ثورة نخبوية انما  الريادة والقيادة للفئات المهمّشة والمسحوقة، فالنسبة الغالبة فيها هي فئة الشباب ذوي الثقافة البسيطة ومنهم نسبة كبيرة من العاطلين وممن لم يأخذوا فرصتهم الكافية من التعليم، والبعض الاخر اضطر لترك الدراسة لتوفير لقمة العيش وتدبير متطلبات الحياة.
والسؤال الآن: ما هو دور الثقافة والمثقفين في هذا الحراك؟ نعم، دور المثقف مهم ولكنّه كان الدور الساند والمشجّع وتقوية الروح المعنوية وفتح فضاءات الحوار والاجابة عن الاسئلة عن طريق الحضور الدائم واقامة الانشطة الفنية والادبية والثقافية المختلفة ودور الاعلام الحر في ايصال صوت الشباب الثائر الى ابعد مدى.. ولا بدّ من الاشارة الى أمر ذي اهمية كبيرة كي لا نبخس المثقف حقه في تهيئة الاجواء لهذا الحراك قبل الاول من اكتوبر 2019 (وقت بدء الثورة الشبابية) إذ أسس الارضية الصلدة من خلال الاسهام في طرح الافكار وكشف السلبيات والاخفاقات ونقد الظواهر المدانة التي تقف وراءها السياسات الخاطئة.
ما أردت قوله باختصار إنّ اهم ما يحرك الشعوب هو درجة الوعي واليقظة ومعرفة الواجبات والحقوق والعدالة بين المواطنين دون تمييز طبقي او عرقي او طائفي.. اما الثقافة فتسهم في دعم وتنظيم وتنشيط عملية التحول نحو
الاهداف المنشودة.