الاحتجاجات العربيَّة.. المخاض الطويل

آراء 2019/12/22
...

نصير فليح
منذ ما يقرب من التسعة أعوام والمجتمعات العربية تعيش حالات احتجاجية متعددة، تخف حينا لتعود مجددا، وتنجح في مكان وتخفق في آخر، فما الذي جرى ويجري؟
هناك أكثر من سبب لهذه الظاهرة. فقد دخل عالمنا العربي العصر الحالي، عصر العولمة والاعلام والتواصل، وهو مثقل بعبء كبير من مخلفات الماضي اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا. 
وزاد في حدة الازمة الدكتاتوريات المعمرة التي هيمنت على أجزاء كبيرة منه في فترات طويلة من القرن العشرين وممارساتها التدميرية. وأمست مجتمعاتنا العربية قادرة على رؤية ومشاهدة ما يجري في العالم أولا بأول، ومقارنته بواقعها المتردي. هذا التوتر ظل يتفاقم مع انتشار وتغلغل وسائل الاعلام والتواصل في كل مكان تقريبا، وبقاء الاحوال المتخلفة المزمنة من جهة اخرى، الى ان جاءت لحظات الانفجار نتيجة طبيعية لهذا الغليان التدريجي المتصاعد.
عنصر المقارنة شديد الاهمية في هذا السياق. ونقصد ان الشعور بالسخط والحاجة للتغيير، مقترن بشكل وثيق بعنصر المقارنة في الوعي العام، بين احوال الانسان والمجتمع في عالمنا العربي واحواله في أماكن اخرى من العالم. وليست المقارنة ممكنة بالطبع الا مع بعض الدراية والمعرفة بأحوال الانسان في مجتمعات اخرى، وهو ما باتت وسائل الاعلام والتواصل توفره بوفرة وكثافة.
إنّ الحاجة الى دخول العصر والتحديث ابتدأت أصلاً بعنصر المقارنة هذا. فالنقطة الأبرز لتماس مجتمعاتنا العربية مع العصر الحديث تعد  غالبا دخول نابليون لمصر عام 1798. صحيح أنّ بعض المعرفة والدراية بأحوال المجتمعات الاكثر تقدما كانت موجودة قبل ذلك التاريخ، ولكن التماس المباشر مع القوات الغازية، والغرب عموما، ولد ما يمكن تسميته "صدمة حضاريّة" انتبهت معها المجتمعات العربية الواقعة تحت سلطة الدولة العثمانية بمعظمها انذاك، فنشأت ضرورة داخلية لمواكبة العصر. ولولا هذا التماس المباشر، لربما ظلت مجتمعاتنا والعالم العربي والاسلامي إجمالاً لقرون اخرى على حاله القديمة.
وكما يقول محمد عابد الجابري بصواب في كتابه (نحن والتراث): "الدافع الرئيس للذات العربية الحديثة إلى تأكيد نفسها بهذا الشكل معروف ومعترف به من طرف الجميع: انه التحدي الحضاري الغربي بجميع أشكاله وأبعاده كافة"، ولا يقتصر الأمر بالطبع على جانب تأكيد الذات، بل على مجمل أوضاع الانسان والمجتمع، حسب الظروف والسياقات.
ومعروف ما مرّ بعد تلك الايام من فترات الاستعمار، ثمّ حركات التحرر، ثم مجيء انظمة "وطنية" كانت في الغالب استبدادية وقمعية مزقت المجتمعات اكثر مما ساعدت في نموها وتنظيمها. فضلا عن استمرار النفوذ والتأثير العالمي بصيغ جديدة غير صيغ الاستعمار المباشر السابقة.
لكن عصرنا الحالي تميّز بحالة جديدة نوعيا من المعرفة والدراية – وبالنتيجة المقارنة – مع ما يجري في شتى انحاء العالم أولا بأول. وكان لا بدّ لذلك من ان يكثف الشعور بالسخط، ما دامت احوال عالمنا العربي شديدة التدهور. بل ان بوسعنا القول انه منذ لحظة دخول وسائل الاعلام والتواصل الحديثة الى عالمنا العربي، اصبحت المسألة مسألة وقت لا أكثر لتنامي الشعور بالسخط باتجاه نقطة الغليان والانفجار.
وكل هذا لا يجري بمعزل عن العناصر الاخرى الفاعلة في المشهد المحلي والعالمي. فالانظمة القديمة لا تتخلى عن سلطتها وامتيازاتها بسهولة، واذا اضطرت لبعض التراجع فإنها تسعى أن يكون شكليا قدر الامكان. والقوى العالمية والاقليمية والعربية الرسمية تراقب كل هذا عن كثب وتتلاعب بالأوراق واضعة مصالحها قبل اي اعتبار اخر بالطبع. 
أضف الى ذلك ان مجتمعاتنا نفسها لا تزال تستكشف أولى خطواتها باتجاه قيم ومفاهيم جديدة أو غير مترسخة. فالمفاهيم الرئيسة من قبيل معنى وطبيعة الديمقراطية، وارتباطها بالعدالة الاجتماعية، والحد بين الديمقراطية والفوضى، وما الذي يتوجب عمله لتحقيق دولة مواطنة يعيش الناس فيها بكرامة (وهي المفاهيم الاكثر مقبولية على المستوى العالمي، ولو من حيث المبدأ على الأقل) باتت تطرح اسئلتها بقوة في الوقت الذي لا تزال فيه البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية المترسبة من الماضي فاعلة وحاضرة.
مما يبيّن حجم التحديات لهذا المخاض الطويل الذي لا مناص من السير فيه، والذي بدأت أولى ظواهره القوية منذ اعوام، مثل بركان تراكمت وتصاعدت الحرارة فيه وبدأ يقذف حممه الى العلن، وليس هناك ما يدعو للاعتقاد انه سيتوقف عن ذلك قبل الوصول الى حالة جديدة مختلفة نوعيا حتى لو طال أمدها.