شمال انكلترا العمالي صوّت للمحافظين

بانوراما 2019/12/22
...

بنجامين كولر  ترجمة: خالد قاسم

هزيمة حزب العمال البريطاني الساحقة في معاقله السابقة لها عواقب وخيمة عليه؛ اذ لا يمكن تسوية الخلافات بين جناحي الحزب المكونين من كبار السن والطبقة العاملة من جهة والأعضاء الحضريين والمتعلمين من جهة ثانية.
فقد سار حشد من الناخبين تحت المطر نحو محطات الاقتراع لبلدة بولسوفر في شمال انكلترا، وكان هؤلاء من مؤيدي اليسار البريطاني اذ عملوا موظفي متاجر وعمال مناجم ومدرسين متقاعدين ومساعدين صحيين. لكنهم عندما خرجوا من المحطات لم يصوتوا لحزب العمال الذي وجههم لعشرات السنين خلال الفوضى السياسية، وإنما صوتوا لعدوهم القديم أي الحزب المحتقر هناك لأنه أغلق المناجم وقلص حجم الدولة: حزب المحافظين.
تقول إحدى الناخبات العاطلات عن العمل: "أنا من خلفية عمالية: مناجم الفحم ومواجهة تاتشر وكل شيء آخر"، وهي من المعارضين للبريكست لكنها تريد شخصا يسير على خطى تاتشر القاسية لحل المشاكل نهائيا: "البلاد بحالة تراجع، ولسوء الحظ صوتت لبوريس فهو أفضل السيئين."
هذه الناخبة قصدت بكلامها رئيس الوزراء بوريس جونسن، غريب الأطوار من الطبقة العليا الذي تحدى 50 سنة من الجغرافيا السياسية باختراقه تحالف العمال القديم المؤلف من ناخبي البلدات الصغيرة والطبقة العاملة في مقاطعة ميدلاندز وشمال انكلترا، وهي كتلة مقاعد كان يعتقد سابقا أنها منيعة جدا لدرجة وصفها بالجدار الأحمر.
خسر العمال هناك تسعة مقاعد على الأقل كانت بحوزتهم بدون انقطاع منذ الحرب العالمية الثانية، وانحدر نمط السياسة القبلية بشمال انكلترا حيث يرث الأفراد عادات التصويت من آبائهم وأجدادهم، وتجاوزوا اغلاق المناجم وخفض المنافع عبر الأجيال. وخسر أيضا دينيس سكينر الملقب بوحش بولسوفر والنائب العمالي الذي دمج الاشتراكية والقيم المؤيدة للبريكست، ما جعله يسيطر على المدينة ويبقى نائبا لمدة 49 سنة.
 
خسارة تاريخية
تعد هذه الهزيمة هي الأكبر للعمال منذ سنة 1935، وتشير لنهاية عهد قدرته على الوصول الى المدن المزدهرة وقرى التعدين السابقة المهملة. ووقع انقسام بين جناحي الحزب؛ المؤيدين والمعارضين للهجرة، والشباب وكبار السن، وخريجي الجامعات وأصحاب المتاجر.
بدأت الأحزاب اليسارية الكبيرة والقديمة بالزوال من أوروبا منذ سنوات، إذ تلاشت التحالفات الطبقية من خلال الاقتصاد ما بعد الصناعي. لكن عواقب إعادة الاصطفاف السياسي في بريطانيا، كما هي حال الولايات المتحدة، أكثر خطورة لأن نظام الحزبين لديهما يمنع الأحزاب اليسارية من حل خلافاتها عبر الانفصال.
يتنازع اليسار على ضفتي الأطلسي، اذ يصارع حزبا العمال (البريطاني) والديمقراطي (الأميركي) داخل معركة شرسة بين النشطاء الشباب والناخبين الأكثر اعتدالا. وكانت نتائج بريطانيا درسا مفيدا بشأن نتائج تدمير تحالفات حزبية قديمة قبل أن تبرز أخرى جديدة بحاجة للوقت كما يقول محللون.
استيقظ البريطانيون بعد التصويت ليجدوا سيطرة حزب العمال على المدن الانكليزية، أما المحافظون فاستغلوا سلطة البريكست لاكتساح الضواحي حيث كانت سمعة الحزب سيئة لأجيال.
كرر المحافظون نجاح الرئيس ترامب باختراق ما يسمى الجدار الأزرق في ولايات مثل ويسكنسن وميشيغان سنة 2016، مستغلا مزيجا من الرسائل المعادية للهجرة وتفكك الولاءات الطبقية للفوز بمقاعد كان يعتقد بانتمائها للديمقراطيين.
سواء صوّت البريطانيون لصالح إعادة اصطفاف دائمية، أو مجرد مرة واحدة طويلة، بما يكفي لاجتيازهم البريكست وقيادة جيريمي كوربن الكارثية للعمال، فيبقى هذا هو السؤال الأكبر. لكن خارج الكنائس والمطاعم والمدارس والمقطورات حيث أدلى ناخبو بولسوفر بأصواتهم، كان واضحا أن كثيرا من الناخبين السابقين للعمال قد شعروا بالراحة للوقت الحالي مع المحافظين أكثر من أي مكان آخر.
يتحسر هؤلاء على 10 سنوات من الوعود غير المنجزة، معظمها لحزب المحافظين، لكنهم تبنوا فكرة جونسن بأن النخبة السياسية وليس حزبه من تستحق اللوم. واستشاط الناخبون غضبا من المهاجرين واقتصاد بلادهم والتركيز المستمر لوسائل الاعلام والنخبة السياسية على جنوب البلاد باتجاه لندن.
 
تغيير الولاءات
فوق هذا كله، حرر الناخبون، الذين شكلوا قاعدة العمال القديمة في بولسوفر، أنفسهم من مشاعرهم عن كوربن، وأطلقوا عليه أوصاف الماركسي والمؤيد للارهاب والأبله. ويشير أحد الناخبين، ويدعى توماس الى مكان أمضى فيه 30 سنة وهو يعمل في منجم فحم، ورغم كل المخاطر فالتعدين عمل ثابت وأجوره عادلة، ويأتي بكل مزايا حماية النقابات الغائبة حاليا بقطاعات حلت 
مكانه. 
لكن توماس وزوجته كريستين، رفضا كشف اسمهما كاملا خوفا من معرفة أصدقائهما لمن صوتا، شعرا بالاحباط من انحدار المنطقة المتزامن مع الغضب تجاه العمال المهاجرين الذين سيطروا على وظائف قليلة الأجر لتحل مكان التعدين.
تحمل إعادة الاصطفاف السياسي البريطاني مخاطر على المحافظين أيضا، فمثلما هي حال أنصار الحزب الجمهوري الأميركي عندما سيطروا على الولايات الجنوبية ليجدوا أنفسهم فجأة عاجزين عن كسب مقاعد من مناطق مثل نيو انكلاند، يخاطر حزب المحافظين البريطاني، أيضا، بخسارة ناخبيهم الليبراليين اجتماعيا في مناطق جنوب انكلترا، اذا خضعوا لسيطرة المناطق العمالية سابقا بالشمال.
في الوقت نفسه، ومع تزايد التنوع داخل بريطانيا، سينتفع حزب العمال في نهاية المطاف من اصطفافه مع القيم الليبرالية الاجتماعية، لكن ذلك لن يحدث قريبا ما لم ينتشر مؤيدوه عبر الخارطة الانتخابية.
ذكر عدة ناخبين في بولسوفر إن ابتعادهم عن حزب العمال بدأ منذ سنوات قبل البريكست بسبب انحدار علاقاتهم مع النقابات والتصاق قيادة الحزب بزيادة الهجرة. غير إن البريكست هو من وطد تصويتهم للمحافظين، ومع إن فكرة إجراء استفتاء ثان قد ترسخت في لندن لكنها بدت لناخبي بولسوفر، بكل أطيافهم، تهديدا لشرعية الديمقراطية.