مكاسب مرحلة ما بعد الحرب الباردة مهددة بالزوال

بانوراما 2019/12/27
...

تريسي ويلكنسون وايريك كيرشباوم
ترجمة: بهاء سلمان
قبل بضعة أسابيع، تجمع عشرات آلاف الألمان والزوار الأجانب عند بوابة براندنبيرغ الآيقونية، التي شطرت مدينة برلين سابقا، للاحتفال بالذكرى السنوية الثلاثين لسقوط جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة، على الرغم من أن الكثير من المكاسب المتحققة منذ ذلك الزمن هي الآن تحت التهديد. فجدار برلين “صار الآن جزءا من التاريخ، والدرس المستقى منه هو أنه لا توجد جدران بارتفاع أو عرض كافيين لفصل الناس عن بعضهم البعض أو تحجيم الحريات التي لا يمكن تفكيكها،” هكذا قالت المستشارة الالمانية انجيلا ميركل، التي نشأت في الجانب الشرقي الشيوعي، عند البوابة حيث بداية تطويق برلين الغربية بحاجز بلغ طوله مئة ميل، سمي بجدار برلين.
تواصل الخلاف
ورغم أن الجدار البالغ ارتفاعه 12 قدما و”شريط الموت” المصاحب له، إذ كان الحراس يقتلون الألمان الشرقيين الساعين للفرار من الجانب الشيوعي للمدينة، قد تفكك لفترة أطول من السنوات الثمانية والعشرين التي بقي شاخصا فيها، فقد بقيت الانقسامات الشرقية الغربية، بمعية تحديات ونزاعات عالمية أوسع حجما كان يعتقد بزوالها سلفا. ووسط خضم صعود الوطنية الانعزالية داخل القارة الأوروبية والولايات المتحدة، قالت ميركل، التي تشغل منصب المستشارة منذ سنة 2005، أن “الجدار يذكرنا جميعا أنه ينبغي علينا تأدية دورنا تجاه الحرية والديمقراطية.”
عند بوابة برانيدنبيرغ، أنشد المحتفلون أغاني بمعية الموسيقى تمجد المناسبة، وشاهدوا ألعابا نارية للذكرى السنوية الثلاثين. وأضافت ميركل، التي ستترك منصبها بحلول العام 2021 بعد انتهاء دورتها الرابعة: “القيم التي تستند عليها أوروبا، مثل الحرية والديمقراطية والمساواة وحكم القانون وضمان حقوق الانسان، تعد واضحة وبديهية تماما، ويجب أن تدوم ويدافع عنها تكرارا ومرارا، وهو أمر بالغ الأهمية في يومنا هذا، وأكثر من السابق بشكل مطلق.”
وفي الأيام القليلة السابقة للذكرى السنوية، وبينما كان يتلقى سيلا من الأسئلة حول التحقيق في اقالة الرئيس ترامب، تجوّل وزير الخارجية الأميركي مايكل بومبيو في بقايا جدار برلين وأقبية الحراسة في أرياف ألمانيا حينما كان يقوم بدوريات تفتيشية عليها قبل ثلاثين سنة حينما كان ضابطا في الجيش الأميركي آنذاك. وقال بومبيو بعد عودته الى واشنطن في نفس يوم ذكرى سقوط الجدار، أنه يشعر “بالذهول من الشوط الذي تم قطعه منذ تلك الفترة.” وعبر الأيام الثلاثة التي قضاها في ألمانيا، امتدح المسؤول الأميركي كثيرا أهمية علاقات بلاده مع ألمانيا والدول الأوروبية الأخرى فيما يخص معالجة مشكلات العالم، من افغانستان الى سوريا والانتشار النووي.
 
تفاخر أميركي
“المشكلات التي تقع على عاتق ألمانيا والولايات المتحدة نيابة عن العالم تعد هائلة للغاية،” هكذا قال بومبيو، مستذكرا المناسبة، حينما كان برفقة ميركل في مكتبها الحديث الطراز، مع منظر لبوابة براندينبيرغ. “لقد عملنا مع بعضنا البعض لدرء الخطر والمواقف الصعبة عن أعداد ضخمة من البشر تقدّر بالمليارات، كانت تنوء تحت ضغوط أنظمة استبدادية، ليس فقط هنا في قارة أوروبا، بل عبر العالم بأسره، ويجب علينا أن نشعر بالفخر الشديد لما أديناه من عمل قمنا به معا، كما ينبغي علينا أيضا تذكير مواطني ألمانيا ومواطني الولايات المتحدة وجميع الناس عبر العالم أن قوة بلدينا تعمل باتجاه واحد سوية.”
بيد أن العديد من مستضيفيه شككوا في تقديرات بومبيو الايجابية، وقدموا ملاحظات حول ازدراء الرئيس ترامب من الاتحاد الأوروبي، والاستخفاف العلني بالمستشارة ميركل، وانتقاد حلف شمال الأطلسي، علاوة على الانسحاب من اتفاقيات رئيسة للسيطرة على السلاح التي برزت بعد انتهاء مرحلة الحرب الباردة كوسائل لكبح قدرات روسيا. يقول توماس باولسن، رئيس معهد كوربر للسياسة الخارجية، المتّخذ من برلين مقرا له، إذ ألقى بومبيو خطابه مؤخرا: “لقد صار المحيط الأطلسي أوسع حجما، فالألمان يرون أن هناك حاجة الى استقلال أكبر عن الولايات المتحدة ... أمانزال رائعين سوية؟ نحن سنكون أقوى اذا ما تكلّمنا بصوت واحد.”
وأضاف باولسن، مع تواجد بومبيو بين الجماهير، أنه يأمل أن تبقى علاقات ما عبر الأطلسي حيّة  وتستوعب “الخطبة المسهبة على موقع تويتر”. وبعد مرور ثلاثين سنة، لا تمثل العلاقة العابرة للأطلسي المجال الوحيد للتساؤل حول التطوّر والتقدم المتحقق منذ سنة 1989، فالانقسامات الطويلة الأمد بين الألمان الشرقيين والألمان الغربيين متواصلة تطارد البلاد، التي ظهرت منذ ذلك الحين كأكثر دول أوروبا أهمية سياسية ونشاطا اقتصاديا.
 
إحباط كبير
وتشير احصائيات استطلاع للرأي اجري مؤخرا، من قبل معهد ابسوس، الى أن واحدا من كل سبعة ألمان (15 بالمئة تقريبا) لديهم نظرة سلبية حيال موضوعة سقوط الجدار، لأن حالة الاضطراب الهائل والتكلفة المادية المرافقة لزوال ألمانيا الشرقية تسببت بأضرار أثرت على حياتهم ومعيشتهم، وبالمقابل كان 30 بالمئة من المستطلعة آراؤهم يحملون وجهات نظر متفاوتة. وارتبطت الآراء السلبية، كما تنوّه ابسوس، بما حصل من زيادة للضرائب وارتفاع التكاليف المادية المتعلّقة بحالة اعادة توحيد البلاد بعد عام من سقوط الجدار. ولم تتجاوز نسبة الآراء الايجابية لسقوط الجدار 54 بالمئة بحسب النتائج، لتمثل أغلبية بسيطة.
ووجد استطلاع آخر للرأي، أجراه معهد ديماب لصالح شبكة تلفزيون اي ار دي، أن 52 بالمئة من الألمان الشرقيين يعتقدون جازمين باساءة التعامل معهم، و64 بالمئة يرون بعدم عودة الألمانيتين الى مستويات التنمية  نفسها بشكل كامل، كما يقول 15 بالمئة بعدم حصول هذا الأمر على الاطلاق على مدى العقود الثلاثة التالية لسقوط الجدار. ولا تزال هناك فجوات هائلة في ما يخص الأجور والرواتب التقاعدية ومستويات الثروات المتراكمة بين شرق ألمانيا وغربها، بينما بقيت نماذج الانتخابات لغاية الآن مختلفة بشكل واضح بين الشرق والغرب.
وقالت المستشارة ميركل خلال لقاء صحفي أجرته مؤخرا مع صحيفة “جنوب ألمانيا”: “بعض الناس الذين اعتقدوا بحصول حالة تكافؤ بين الشرق والغرب بشكل أسرع يساورهم حاليا ادراك يشير الى أنه من المحتمل أن يستغرق الأمر نصف قرن أو حتى مدة زمنية أطول لتحقيق ذلك. وخلال السنوات العشر أو العشرين الأولى بعد سقوط جدار برلين، كانت هناك آمال بسرعة حصول التغيير.” وتمر ألمانيا أيضا بنوبة عميقة من حالة التفكير الذاتي مع حلول الذكرى السنوية الحالية من سقوط الجدار في أعقاب الصعود المفاجئ لحزب البديل لأجل ألمانيا اليميني المتطرف خلال السنين الأخيرة، والذي حاز على 25 بالمئة من الأصوات في بعض الأقاليم الشرقية الشيوعية التوجه سابقا.
 
توجهات حزبية جديدة
وراجت سياسات البديل لأجل ألمانيا الحادة المناهضة للأجانب والشعارات الشعبوية ضمن مناطق ألمانيا الشرقية خصوصا، إذ تعد مستويات الدخل المالي عموما متدنية، كما ان الممتلكات المتراكمة والثروة أقل حجما بكثير من الغرب كنتيجة لنصف قرن من الحكم الشيوعي. وفي تعليقه على أحد أهم التذمرات التي يعبر عنها الأمان الشرقيون، قال عمدة برلين مايكل مولر خلال حديث له مؤخرا: “أنا أدرك أن الهيجان كان هائلا لدرجة لا توصف للناس القاطنين في شرق ألمانيا عن ظروفنا نحن سكان ألمانيا الغربية بعد سقوط الجدار، ومع انجازنا للكثير خلال السنوات الثلاثين الماضية، إلا أن هناك المزيد والمزيد أمامنا من العمل لأدائه. لقد ارتكبنا الكثير من الأخطاء عبر تلك السنوات الثلاثين، فلم ننجح بالتغلّب على الفروقات بين الشرق والغرب. انه أمر مخيّب للآمال، وينبغي علينا الاقرار بضرورة بذل المزيد من الجهد لخلق مستوى معيشة مشترك عبر البلاد بأسرها.” ومع ذلك، حث مولر الجميع على الاحتفال بما حصل قبل ثلاثين سنة: “أنا أدعو برلين وألمانيا للخروج والاحتفال بما حققتموه على مدى العقود الثلاثة الأخيرة.” وقالت مونيكا غروتيرس، وزيرة الثقافة الألمانية، في لقاء صحفي أجرته مع مجموعة صغيرة من الصحفيين الأميركان أن ألمانيا لن تنسى مطلقا الدور الرائد الذي لعبته الولايات المتحدة، وخصوصا الرئيسان الراحلان رونالد ريغان وجورج بوش الأب، ودورهما المساهم الأساسي في سقوط الجدار، ومن ثم استكمال عملية اعادة توحيد البلاد: “أنا أعتقد بامتلاك كل من ريغان وبوش، وكذلك المستشار الألماني الغربي هلموت كول، لنظرة ثاقبة وإيمان بالهدف المرجو.”
لحظة زهو وخلال زيارته الى برلين، أماط وزير الخارجية الأميركي بومبيو اللثام عن تمثال للرئيس الراحل رونالد ريغان أمام سفارة بلاده، مشيدا بحالة سبق الادراك لدى ريغان والتأثير الذي مارسه من اجل سقوط الشيوعية. وأضاف بومبيو معلقا على سقوط الجدار: “كانت تلك من أسعد اللحظات في تأريخ ألمانيا، وحتى حينما نتذكر الآن من خلال الأفلام والخطابات ما حصل، تمتلكنا رغبة للشروع بالبكاء لأنها كانت حقا لحظة سعيدة. لقد كانت ثورة سلمية، من دون اراقة أية دماء، ولهذا السبب نحن نشعر بالزهو، لأننا رغم تأريخنا الفظيع، نمتلك هذه اللحظة الرائعة أيضا.”              
كان قد تم تشييد جدار برلين بسرعة خلال العام 1961 لغرض ايقاف محاولات الألمان الشرقيين الفرار الى الجزء الغربي من البلاد، وكان قد بدأ بأسلاك شائكة وجدار كونكريتي، وتم تعزيزه لاحقا ليصير حاجزا أبيض اللون بحراسة مشددة طوّق مدينة برلين الغربية وحبس 17 مليون ألماني شرقي بشكل مؤثر، من خلال غلق بوابتهم الوحيدة الأخيرة صوب الجزء الغربي من بلادهم وأوروبا. وسقطت الأنظمة الشيوعية جراء الانتفاضات الشعبية العارمة التي عمت أوروبا الشرقية أواخر سنة 1989، معلنة نهاية الحرب الباردة، ليصير جدار برلين الرمز الأكثر دراماتيكية لهذه الحرب. وكان ما لا يقل عن 139 فردا قد قتلوا بسبب محاولاتهم الفرار الى برلين الغربية، وتم القاء القبض على الكثيرين من الذين لم يحالفهم الحظ بالهروب، لينتهي بهم المطاف بدخول السجن لفترات طويلة.
وقدم الرئيس الأميركي ترامب مؤخرا التهنئة لألمانيا، مشيرا عبر بيان صدر عن مكتبه أن “الرجال والنساء الشجعان من كلتا الألمانيتين اتحدوا وهدموا الجدار الذي كان يقف كرمز للاضطهاد وفشل الاشتراكية لمدة تجاوزت الربع قرن من الزمن.” وأضاف ترامب في بيانه قائلا: “حلفاؤنا وشركاؤنا سيبقون ثابتون على ولائنا غير المتزعزع بدعم مبادئ الحرية الشخصية والحريات العامة التي تديم السلام وولادة ازدهار لا نظير له.”