يعيش العراقيون سلسلة أزمات متشابكة سياسيَّة أمنيَّة اجتماعيَّة اقتصاديَّة، أخذت تنهش بهم من كل حدب وصوب، أزمات يمكن حل البعض منها بكل يسر وسهولة في ظل توفر السيولة الماليَّة الكبيرة، التي هدرت هي الأخرى على مشاريع وهميَّة، أكلت موازنات البلاد، كان يمكن بها بناء دولة أخرى كاملة المواصفات والسمات، مرتكزةً على توفير الخدمات الأساسيَّة والتي تعدُّ من بين الأزمات الكبرى المرتبطة بالفساد الذي تحول الى منظومة متعددة الأوجه وثيقة الصلة بشكل مباشر بالاستيلاء على المال العام وتعطيل المشاريع الإنتاجيَّة الوطنيَّة لحساب مصالح وأرباح الاستيراد العشوائي.
أزمة الكهرباء المتوارثة من النظام السابق، والتي كان أغلبنا يأمل في أنْ تنتهي بأشهر معدودة، ها هي ترافقنا منذ 16 عاماً، لكن هل هناك أزمة إنتاج فعلاً؟، لنفترض أنَّ الكهرباء تستقر وتستمر طوال اليوم، أين سيذهب تجار المولدات، إنْ كان الذين يجهزون الدور السكنيَّة بالطاقة الكهربائيَّة أو المستوردين للمولدات والأدوات الاحتياطيَّة، والكيبلات، ومختلف الحاجات التي تدخل في هذا القطاع التي تصل قيمة أرباحها الشهريَّة الى مليارات الدولارات، بالتالي لا بدَّ أنْ تبقى أزمة الكهرباء كي يستمر التجار بزيادة الأرباح ودفع عمولات من يسهم بتلك الاستمراريَّة من مسؤولي البلاد وساستها.
هناك أزمة أشد وطأة من الكهرباء، لكنها مرتبطة بها، متمثلة بالماء الصالح للشرب "شحته - تلوثه" ولأنه منذ 16 عاماً، بهذا الشكل من دون أنْ يطرأ أي تحسن، راحت معامل إنتاج المياه المعقمة والمعبأة تنتشر محققةً أرباحاً خياليَّة أيضاً، خاصة أنَّ أغلبها يعمل بعيداً عن أعين الجهات المعنيَّة بالمتابعة أو بالتواطؤ معها عبر منظومة الفساد، فضلاً عن شركات استيراد ما يعرف بـ"الفلتر" التي حتماً تحتاج موادَّ احتياطيَّة وما شابه، بالتالي لأجل بقاء ديمومة هذه المعامل وزيادة أرباحها يجب أنْ تستمر أزمة الماء "شحّاً ونقاوةً". كما لا بدَّ من استمرار أزمة التعليم كي تدوم أرباح المدارس الأهليَّة التي توفر ما تفتقده الحكوميَّة، كما يجب أنْ تستمر أزمة تردي القطاع الصحي الحكومي، رغم رفع أسعار الخدمات المقدمة، لاستمرار زيادة عدد وأرباح المستشفيات الأهليَّة والمراكز الطبيَّة وعيادات المفراس والرنين الخاصة، وأزمة شح الأدويَّة في المستشفيات الحكوميَّة، بخاصة المنقذة للحياة، كي يحصر بيعها بيد الصيدليات والمذاخر الطبيَّة والمكاتب العلميَّة الأهليَّة.
آخرون يركزون على وضع العراقيل أمام تطوير الصناعة والزراعة واستعادة بريقهما، كي تستمر أرباح الاستيراد وغسل الأموال عبر وجه الفساد الأكبر في البلاد، مزاد العملة اليومي، الذي تذهب نسبة كبيرة من أرباحه الى تدمير البنى التحتيَّة للبلاد، والحدِّ من أي إمكانيَّة للتطور والنهوض، ما يعني بقاء المواطن يدور في فلك الأزمات المتوارثة المستعصية المختلقة. ولكي ترتفع أرباح التجار ومن خلفهم من ساسة ورجال دين، يجب ديمومة تلك الأزمات عبر خلق الخلافات وتشتيت الرأي العام وربما الوصول الى صناعة الحروب للقضاء على أكبر عددٍ من الناس، وهذا ما سيولد أزمات اجتماعيَّة وتعايشيَّة أخرى بين المكونات العراقيَّة. فمثلما تعتاش الحشرات والقوارض على النفايات، يعتاش الكثير على الأزمات، لذا تجدهم يتفننون بصناعتها، ليحق القول عليهم: "الفاشلون بالبناء يجتهدون بطرق الهدم ويبرعون بالسرقات".