صورة الإرادة العراقيَّة القادمة

آراء 2019/12/28
...

زهير كاظم عبود 
 
من دون استثناء كان كل العراقيين بعد العام 2003 يحلمون بعهدٍ خالٍ من الخوف والحروب وضنك العيش، بعد أنْ تخلصوا من نظام دموي ودكتاتوري فتاك، وكبرت أحلامهم مع تشكيل الجمعيَّة الوطنيَّة التي ضمت شرائح وشخصيات متنوعة من المجتمع العراقي، وزاد الحلم سعة بصدور قانون المرحلة الانتقاليَّة، ثم تلاه صدور الدستور العراقي الذي أقرَّ بموافقة الأغلبيَّة من العراقيين باستفتاء شعبي عام.
 وأدرك حينها أهل العراق أنَّ لهم حقوقاً نصَّ عليها الدستور، وأنَّ عليهم واجباتٍ أيضاً، كما فصل الدستور في نصوصه التأكيد على أنَّ السيادة للقانون وأنَّ الشعب مصدر السلطات، وأنَّ تداول السلطة لن يكون بعد اليوم إلا عبر الوسائل الديمقراطيَّة المنصوص عليها دستورياً، ولعلَّ أجمل ما ورد من نص يحظر تشكيل ميليشيات عسكريَّة خارج إطار القوات المسلحة، وأنَّ السلطات في العراق ثلاث هي التشريعيَّة والتنفيذيَّة والقضائيَّة.
وفي خضم ترتيب بناء الدولة تخندقت أحزابٌ وتجمعات تحتمي بظل الطائفيَّة التي أيقظها البعض لتشكل حربة ذات رأس حاد لتقتل العراقيين، فتدور رَحى معارك طاحنة تفتك بجسد أهل العراق، خسر فيها العراق مجموعات كبيرة من الأبرياء الذين سفكت دماؤهم على منحر التناحر الطائفي، وقبل أنْ تهدأ النيران دخلت مجموعات الإرهاب القاعدي بعد أنْ وجدت لها ملاذاً وأماكن لتقتل جميع أبناء العراق، وأمام صفحة التصدي لإرهاب القاعدة ووجود الاحتلال الأميركي، حاول العراق بناء مؤسسات القوات المسلحة بعد أنْ تم حلها من قبل الحاكم المدني المحتل
 بريمر.
ومع تحقيق الانتصارات على تجمعات القاعدة الإرهابي، ومع تعرض مناطق عديدة من العراق الى تفجيرات خسر بها العراق أرواح الآلاف من أبنائه البررة، وتعرضت القوات الأميركيَّة الى مقاومة بالسلاح من مجموعات ترفض الاحتلال وتبدي مقاومة مسلحة لإنهاء وجوده، وبالنتيجة تحقق انسحاب القوات الأميركيَّة في 31 آب 2010.
وقبل أنْ يسترد العراقيون أنفاسهم بقيت تلك المجموعات تحتفظ بسلاحها وأفرادها خلافاً لمنطق حصر السلاح بيد الدولة، وتعارضاً مع حظر وجود ميليشيات مسلحة، وبنتيجة تمدد التجمعات الإرهابيَّة في سوريا واندماج تشكيلاتها ظهرت عصابات داعش الإرهابية في العراق لتكون بديلاً عن تنظيم القاعدة الإرهابي.
خلال هذه الفترات التي انشغل بها العراق والقوات المسلحة بالتصدي لتلك المجموعات ومنازلتها ومطاردتها، بقيت ملفات غاية في الأهمية مهملة ومتروكة من دون علاج، فتردى الواقع الخدمي في المحافظات، وتخلف تطور التعليم والتربية، وتناست الحكومة تشييد المدارس، وأهملت قضيَّة الإسكان، وتناقصت الحصة التموينيَّة للفرد، وانعدمت البنى التحتيَّة للصناعة والزراعة والتجارة، وتردى الواقع الصحي بشكل لافت للنظر، مع بروز ظاهرة حمل السلاح في كل بيوت العراقيين، وتطور نزاع العشائر الى استعمال الأسلحة المتوسطة والثقيلة أحياناً لحل خلافاتها، كما اتجهت الحكومة الى توظيف أعدادٍ كبيرة من الحزبيين ضمن وظائف الدولة من دون تقدير للحاجة والكفاءة، ومن دون أنْ يتم النظر إلى ظاهرة البطالة والجوع وانعدام فرص العمل للعراقي ونزول خط الفقر في العراق الى مستويات خطيرة.
وطيلة الفترة الماضيَّة ومع تعدد مجالس النواب التي كانت تدير العمليَّة التشريعيَّة لم يكن يشغل بال هذا المجلس القوانين والتشريعات التي تهم حياة المواطن العراقي، ولم يلتفت مجلس النواب الى الخروقات الفاضحة والتعدي على نصوص الدستور، خصوصاً ما يتعلق بتخلي من يتولى منصباً سيادياً أو أمنياً رفيعاً عن الجنسيَّة الأخرى المكتسبة، فضلاً عن التدخل والتأثير في قرارات القضاء حسب ما أفاد به عددٌ من المسؤولين، وأصبحت سمة التعدي على المواطنين ومعهم من ممارسة حقوقهم الدستوريَّة سمة ظاهرة لم يتصد لها مجلس النواب ولا المحكمة الاتحاديَّة، ووصل الأمر الى حد التوقيف من دون إذنٍ قضائي وعمليات الخطف والترهيب والحجز وتحدي أجهزة الدولة أمام أنظار الناس والحكومة.
وبتأثير قانون الانتخابات السابق بقي أعضاء مجالس النواب أسرى لرؤساء القوائم يملون عليهم ما يريدون، وسيطر عددٌ من الأحزاب على مقدرات البلاد، واستحوذت على المنافع والأموال والعقارات من دون وجه حق ومن دون مواجهة أو تصد لمثل هذه الظاهرة، بدأت تشكيلات تنفيذيَّة تستنفد أموال العراق من دون فائدة لوجودها وعملها كما في مجالس المحافظات والأقضية، كما برزت ظاهرة الحمايات الشخصيَّة التي تمت المبالغة بها الى درجة أرهقت الخزينة.
ظهرت واضحة بعض التظاهرات المطلبيَّة والعامة في عددٍ من المناطق في العراق جوبهت بالتصدي والقمع تارة بالقوة المفرطة والتصفيات وملاحقة المتظاهرين، وتارة بالأساليب القانونيَّة، إلا أنَّ أحداً لم يلتفت الى تراكم هذه المطالبات وتعددها وتطورها، وفي خضم انشغال الحكومة ومجلس النواب بالمكاسب والرواتب والعطايا التي اتخمتهم وجعلتهم بعيدين عن تحسس واقع الناس، وتزامن ذلك كله مع انتشار الفساد والرشاوى في أغلب مفاصل الدولة وبعلم الحكومة والقضاء من دون أنْ نلمس رفضاً أو مواجهة عمليَّة وفعالة لإيقاف هذا الغول الذي يسيطر على مفاصل البلاد التي بدأت تعيش على استيراد أبسط مقومات الحياة بأثمان بيع النفط الذي تعرض للسرقة والسيطرة والتقاسم خارج إطار الدولة.
وبحلول العام 2019 وبعد مواجهات غير منصفة تصدت فيها قوات الأمن لمجموعة من الأساتذة باستخدام أساليب لا تليق بهم، تطور الأمر الى نزول مجموعات من الشباب العاطلين والمدافعين عن حقوق الإنسان، لتنطلق ظاهرة جديدة من الوعي الخلاق، ومن مطالبات سلميَّة واجهتها الحكومة بالرصاص الحي والقنابل الخانقة والمسيلة للدموع، وبالرغم من الأعداد الكبيرة التي راحت ضحيَّة هذه الأساليب فإنَّ الحكومة والمسؤولين في السلطة التنفيذيَّة والتشريعيَّة لم يحركوا ساكناً، وحتى الادعاء العام لزم الصمت ولم ينصف الضحايا والدم العراقي.
بعد شهر تشرين الأول 2019 انبثقت في العراق انتفاضة ضد الفساد وضد تقاسم النفوذ وضد تدخلات خارجيَّة، وتطالب باستعادة الوطن، ويبدو أنَّ الصرخة وصلت الى السلطة التشريعيَّة التي ارتبكت وحثت نفسها لإصدار قوانين كانت مركونة على الرفوف، كما قدم رئيس الوزراء استقالته على مضض متمسكاً بكرسي السلطة من دون أي اعتبار لدماء الشهداء والآلاف من الجرحى والمعوقين
 السلميين.
المطلوب اليوم لا يكمن في تحريك مجلس النواب لإصدار قوانين ملحة، وليس في استقالة رئيس الوزراء أو تعيين رئيس وزراء جديد، المطلوب بالإضافة الى منظومة سياسيَّة جديدة تعتمد على قانون انتخاب منصف وعادل، ومفوضيَّة انتخابات نزيهة، أنْ تتم محاسبة كل من ارتكب جرماً بحق المواطنين العزل والسلميين مهما كان مركزه أو حزبه، وأنْ نسعى حقاً الى حظر كل تشكيل عسكري أو ميليشيات خارج إطار القوات المسلحة، وأنْ نمنع عملها في السياسة لاعتمادها السلاح والقتل والترهيب، وأنْ نتكاتف من أجل إعادة بناء العراق صناعياً وزراعياً وسياحياً، وأنْ نصلح الاقتصاد المتدهور، وأنْ نكون دولة يحكمها القانون ويديرها القضاء النزيه والمحايد، وأنْ يكون مجلس النواب معبراً حقيقياً عن إرادة العراقيين، وأنْ يتم الاستماع الى مطالب الشعب مهما صغرت أو كبرت فهم مصدرُ السلطات التي ينبغي أنْ يتم احترامها في كل حين.