فنٌ سريٌ في الخنادق ابتدعه جنود الحرب العالميّة الأولى
بانوراما
2019/12/28
+A
-A
ايفان هدينجهام
ترجمة: شيماء ميران
لقد ترك جنود الحرب العالمية العظمى العالقون تحت الارض بصمتهم خلال حرب الخنادق من خلال اعمال فنية. واثناء اتباعي المصور والطبيب جيف غوسكي من تكساس، الذي اكتشف العشرات من الانفاق المشابهة لنفق في منطقة غابات معزولة شمال شرق فرنسا، كان مدخله عبارة عن فُتحة رطبة في الارض اكبر بقليل من جحر الحيوان، مغطى باغصان شائكة للتمويه، انزلقنا معا خلال فتحة طينية الى الظلام في الاسفل، ليُفتح الممر سريعا الى الاعلى، ثم زحفنا الى الامام على ايدينا ورُكبنا، ليضيء نور المصابيح المثبتة على رؤوسنا الجدران الكلسية المتربة للنفق القديم، الذي ينحرف مبتعدا عنا الى الظلام. وبعد بضع مئات من الاقدام ينتهي النفق بحُجرة مكعبة من الحجر تُذكرنا بكشك التليفون.
هنا، وبعد فترة قصيرة من اندلاع الحرب العالمية الاولى (التي بدأت قبل مئة عام)، تناوب مهندسو الجيش الالماني الادوار في الجلوس بهدوء تام، للاصغاء باهتمام لصوت انفاق العدو.
فالاصوات المكتومة او حفر المعاول تعني ان فريق حفر العدو ربما يكون على بعد امتار يحفر نفق للهجوم المباشر. ويزداد الخطر في حال توقف الحفر وسماع صوت رص الاكياس والصفائح الواحدة فوق الاخرى، ما يعني ان العدو يضع متفجرات شديدة في نهاية النفق. واكثر ما كان يرهق الاعصاب هو الهدوء الذي يعقبه، ولربما تنفجر الحشوات في اي لحظة وتمزقهم او تدفنهم احياءً. وفي الجوار، على احد جدران النفق، اضاءت مصابيح رؤوسنا نقوشا تركها المهندسون الالمان، لاسمائهم ورتبهم يعلوها شعار (يحيا القيصر)، وتبدو النقوش جديدة وكأنما كُتبت بالامس.
وكان الاديم الصخري الجيري والكلسي الاملس لمنطقة پيكاردي الفرنسية أنموذجيا ليس لعمليات الحفر فقط بل للجنود ايضا لتوثيق وجودهم من خلال نقش تواقيع ورسوم ومخططات كاريكاتيرية ومنحوتات بارزة. ولم يكن فن تحت الارض هذا معروف كثيرا خارج مجموعة الطلاب والمولعين بالحرب العالمية الاولى، ورؤساء بلديات القرى وأصحاب
الاراضي.
حرب الحصار
وكشفت صور غوسكي صمود جنود عالم تحت الارض اثناء الاستتار من قصف القذائف المستمر، بتركهم اسماء وصورا لنساء ورموزا دينية وكارتونية وغيرها. ويوضح غوسكي ان تسليط الضوء على عالم منسي للحرب العالمية الاولى يربطنا بالجنود الذين لم ينجوا العديد منهم من ذعر حرب الخنادق.
بدء الصراع بفرسان سلاح الخيالة والثقة التي ستُفقد بجميع الجوانب بحلول الكريسمس. وفي نهاية عام 1914 توقف التقدم الالماني وحفرت الجيوش شبكة واسعة من الخنادق امتدت من ساحل بحر الشمال حتى الحدود السويسرية. وادى سباق التسلح الى الاستخدام الاول والواسع للغازات السامة والحرب الجوية والدبابات. اما على الجبهة الغربية، قُتل الملايين من القوات في هجوم وهجوم مضاد غير مجد لحد كبير. وفي قبضة هذا المأزق المهلك، لجأ الالمان واعداؤهم من الفرنسيين والبريطانيين الى اساليب حرب الحصار التي تغيرت على مر العصور. وكان الهدف هو الحفر اسفل نقاط قوة العدو الرئيسة وتفجيرها، وإحباط الهجوم المضاد بتفجير الالغام لتدمير انفاقهم. وفي ذروة حرب تحت الارض عام 1916 فجّرت وحدات الانفاق البريطانية ما يقارب 750 لغما على طول 160كم لجبهتها، وردَّ الالمان من جانبهم بتفجير 700 لغم تقريبا. واصبحت المرتفعات والتلال التي قدمت نقاط مراقبة حيوية مُثقبة وكأنها جبن سويسري، وترك انفجار الالغام الكبيرة حُفرا ضخمة لا تزال موجودة في المنطقة حتى الان.
والالغام الصغيرة ايضا احدثت الخراب في مجمع الانفاق الذي زحفنا خلاله، إذ تسببت القنبلة التي فجرها الالمان في 26 من كانون الثاني عام 1915 بمقتل 26 جنديا فرنسيا وجرح 22 اخرين.
ولم تكن حرب تحت الارض محصورة بالانفاق الضيقة. فبعض مقالع الحجارة القديمة والمهجورة تحت غابات وحقول بيكاردي امكنها ان تأوي الالاف من الجنود. وفي صباح ضبابي استكشفنا احد المواقع الموازية لحافة منحدر صخري مطل على وادي Aisne. وقادنا الى هناك صاحب الارض الموروثة والذي لن نذكر اسمه حماية لمقلع الحجارة من المخربين.
مقالع الحجارة
واطلعنا بفخر على نحت تذكاري لماريان الرمز الفرنسي الكلاسيكي للحرية الحامي لمدخل المقلع. وخلف حزن مغارة صنعها الانسان، حدقنا بمصفوفة محفورة بروعة لشارات ولائحة تذكارية للرتب الفرنسية التي استترت هنا، وعثرنا ايضا على بضعة اماكن عبادة نحتت باتقان نُقشت برموز دينية وأوسمة وأسماء الانتصارات الفرنسية البارزة.
كما اطلعنا على درج حجري يقودنا من احد اماكن العبادة الى عنف القذائف المنفجرة والمدافع الرشاشة للخطوط الامامية في الاعلى، ويقول "ان قلبي يهتز عندما افكر في كل الرجال الذين صعدوا هذه الدرجات ولم يعودوا
ابدا".
كانت الحياة في مقالع الحجارة مفضلة بنحو واسع على جحيم الخنادق الموحل في الاعلى. وأشار صحفي زار احد الكهوف عام 1915 الى ان "ملجأ قاحلا، وبعض القش والاثاث، وشعلة نار هي وسائل ترف كبيرة لاولئك العائدين من الخنادق"، كما حافظوا على درجات الحرارة طيلة ايام السنة، وكتب جندي فرنسي رسالة لاهله جاء فيها : "ان الحشرات تلتهمنا فالمكان مملوء بالقمل والبرغوث والجرذان والفئران. والاكثر من ذلك انه رطب جدا والكثير من الرجال سقطوا مرضى". ولتمضية الوقت كان الرجال المرهقون يحلمون احلام يقظة.
وحوّل كلا الجانبين اكبر مقالع الحجر الى مدن تحت الارض، واليوم العديد منها سليمة وبشكل ملفت للنظر. كما تجولنا عبر حقل يعود لابن عم صاحب الارض، وهو شاب في العشرينيات من عمره استصلح الارض بجمعه عشرات قذائف الهاون غير المنفلقة والقنابل اليدوية وبعض القنابل الاخرى التي لا تزال تحتوي على غاز سام قاتل، لياخذها الجيش بعيدا
ويفجرّها. وتحت الحقل، وجدنا انفسنا في متاهة مذهلة، هي مقلع حجارة من القرون الوسطى يمتد لاكثر من 11كم تقريبا، بممرات ملتوية وسقوف مرتفعة حافلة بذكريات محطة المترو. اوصل الالمان عام 1915 هذا الجُحر الواسع الى خنادقهم في الخطوط الامامية.
وجهزوه بالمصابيح الكهربائية والهواتف ومراكز القيادة ومخبز ومحل قصابة وورشة صناعية ومستشفى ومصلّى. ولا يزال مولد الديزل الاصلي واسلاك الدفاع الشائكة موجودة في المكان رغم الصدأ والغبار. ورُسمت العشرات من اللافتات في كل زاوية، ونقاط الارشاد الاساسية في متاهة الممرات المربكة. ونقش الجنود الالمان اسماءهم ورتبهم ورموزهم الدينية والعسكرية على جدران المغارة، بالاضافة الى الرسوم الشخصية والكاريكاتيرية المنحوتة باتقان.
الحماية من المخربين
وكان من بين اكثر مدن تحت الارض غزارة في التصاميم قطاع "يانكي" الفرقة 26، وهي اول الوحدات الاميركية الواصلة للجبهة بعد دخول الاميركان الحرب في نيسان 1917. ولزيارة المقلع الذي كانوا يقطنونه في Chemin des Dames، نزلنا سُلميّن متأرجحين الى مغارة بعمق تسعة امتار تقريبا.
وقضينا ساعات في استكشاف 420 دونم من الممرات المتشابكة، وتُظهر مصابيحنا فترة زمنية استثنائية للحرب: ممرات متناثرة بزجاجات لا تحصى واحذية وظروف القذائف والخوذ وأسّرة مصنوعة من اسلاك صدئة، ومجموعة قدور ومقال لا تزال موجودة في المكان.
في شباط عام 1918، وعلى مدى ستة اسابيع امتلأت هذه الممرات بأصوات وروائح المئات من الاميركان. معظمهم من المجندين الجدد الذين تناوبوا بالدخول والخروج من المقالع لتجربتهم الاولى في الخنادق العليا، وامضوا ساعات في تصميم كل سنتمتر مربع لجدران محددة. والتقطنا عشرات الرموز الدينية والوطنية: شارة الماسونيون وفرسان كولومبس، وصور شخصية للعم سام وبافالو بيل، ورسوم كاريكاتيرية للقيصر.
ومن بين الاسماء المحفورة التي وقعت عيني عليها هو إيرل مادللي عريف من ولاية كونيتيكت عمره عشرون عاما، وتذكر النقوش انه قُتل في21 تموز 1918، وهو من بين الالفي قتيل الذين اصيبوا في قطاع يانكي قبل هدنة تشرين الثاني.
ترك الجنود عبارات شخصية للتعريف والخلود في مكان آمن تحت الارض من الفوضى اللاانسانية لساحة المعركة في الاعلى، لكن هذا التراث الفريد من نوعه للحرب معرض للتهديد. فعندما حاول المخربون اقتلاع صورة ماريان قام مالك الارض الغاضب بتركيب اعمدة حديد على جميع مقالعه. اما في مقلع فرقة يانكي قرر ميكانيكي سيارات متقاعد حمايته فشيّد بوابة حديد كبيرة وثبت عليها اقفالا.
وبعد ان احكم الميكانيكي الاقفال عدنا سيرا الى السيارة. واثناء عبورنا ساحة المعركة سألته عن سبب اهمية المقلع المليء باسماء الاميركان بالنسبة له. اجابني بعد التفكير لوهلة "عند قراءتنا لاسماء الجنود هناك في الاسفل، كأننا نعيدهم للحياة مرة اخرى ولو للحظة".
عن موقع ناشيونال جيوغرافيك