مدفع قديم..يهتم به البغداديون

ثقافة شعبية 2019/12/29
...

عادل العرداوي
 
ضمن الحملة العسكرية الجرارة التي قادها السلطان العثماني مراد الرابع عام/1638 ميلادية  لفتح بغداد وطرد الفرس الصفويين الذين كانوا يحكمونها لسنوات خلت.. استخدامه لاسلحة منطورة عديدة كان من بينها مدفع حديث الصنع يتميز بمميزات كثيرة تختلف عما موجود في المدافع القديمة جعلته يدخل في خانة القداسة في ذهن وذاكرة البغداديين نساءً ورجالاً الذين اعتقدوا ان عناية الهية مجهولة تحرك هذا المدفع الأسطوري الذي له الفضل الكبير في فك ابواب بغداد.
وبالتالي فتحها وانسحاب الفرس منها مرغمين بعد ان حكموها لمدة خمس عشرة سنة متواصلة  ببركات هذا المدفع العجيب الغريب..وتشير المصادر التاريخية الى ان احد القادة في جيش مراد الرابع واسمه( كنج عثمان ) اي عثمان الصغير هو الذي قام بتصنيع المدفع من مادة( البرنج/ البرونز ) والحديد وقد وضع على جداره الخارجي علامات فارقة لاول مرة تميزه عن المدافع الاخرى فقد كتب على ظهره العبارة الاتية (مما عمل السلطان مراد خان بن السلطان احمد خان) وصنع له اطارا دائريا يحيط بفوهته يطلق عليه العامة تجاوزا( خزامة ) اي ان ذلك الاطار الدائري في فوهة المدفع انما هو يشبه الى حد ما تلك الحلية الذهبية او الفضية التي كانت تتزيين بها المرأة العراقية وتضعها في ثقب صغير في نهاية انفها للزينة ومن هنا جاءت تسميته العامية الشائعة بين الناس (طوب ابو خزامة) اي المدفع ابو الخزامة..ووضع كنج عثمان ايضا على ظهر المدفع صورا لاسماك وكانها تتقافز وسط الماء اضافة لوجود انخفاض واضح في ظهر المدفع( طعجة) وتفسر العامة هذه الاشكال الصناعية على ظهر المدفع بتفسيرات غريبة..عجيبة ماانزل الله بها من سلطان فحواها ان المدفع المذكور واثناء المسير الى بغداد توقف عن السير بشكل مفاجئ( حرن) مما دفع بالسلطان ان يزعل على المدفع وضربه ضربة قوية على ظهرة لكي يجبره على مواصلة السير.. لكن المدفع بدلا من استجابته لارادة السلطان ومن شدة تلك الضربة على ظهره طفر الى النهر القريب ليستقر في قاعة الى اليوم التالي.. اذ امر السلطان باخراجه من قاع النهر ليجدوا ان مجموعة من الاسماك الصغيرة ومتوسطة الحجم قد علقت في ظهر المدفع دلالة على قدسيته وهكذا نسجت حوله الخرافات والاساطير المضحكة حول هذا المدفع مما دفع بالنساء البغداديات الاعتقاد جزما ان هذا المدفع له كرامات وشفاعات لاتعد ولاتحصى تتوجه به وهكذا فكانت الام التي رزقت بوليد حديث بعد سبعة ايام من ولادته وهو ملفوف بالقماط لادخاله في فوهة ذلك المدفع المعجزة اعتقادا منها ان المدفع سيحمي وليدها من النكبات والشر والحسد ويفتح الرزق أمامه.. وهكذا فقد انهالت على المدفع النذور والحلويات واقمشة ( العلك ) الملونة والحناء لتخضيب الجدار الخارجي له.. وقد نعت الشاعر الشعبي الملا عبود الكرخي تلك الاعتقادات الخرافية عن المدفع بقوله:
 
والى طوب ابو خزامة انه اشهد 
هذا شارته عند الطرن باليد 
واليطلب امراد يشد خيط اسود 
بيه احمر واخضر يشبه الزرور..
 
وقد ذكر لي العلامة المرحوم الشيخ جلال الحنفي في اواسط تسعينيات القرن الماضي ان والدته وهو مواليد بغداد/ 1910 كانت قد ادخلته في فوهة طوب ابو خزامة الشهير وهو طفل صغير مقمط بالقماط لايتجاوز عمره سبعة
 ايام!
وظلت هذه الممارسة متوارثة من قبل نساء بغداد ايام زمان وبقيت موجودة حتى ثلاثينيات القرن الماضي..بالرغم من ان علامة بغداد الشيخ محمود شكري الألوسي كان قد اصدر في نهاية العهد العثماني رسالة دينية شجب ومنع هذه الممارسة الغريبة اسماها( القول الانفع..في الردع عن زيارة
 المدفع ).وبعد ان تم فتح بغداد فان هذا المدفع بقي فيها وتحديدا ظل في (قلعة المدفعية ) اي بناية وزارة الدفاع القديمة في باب المعظم وبعدها نقل مع مدافع واسلحة قديمة ليستقر لسنوات طويلة في متحف الاسلحة القديمة بالباب الوسطاني في الشيخ عمر والتابع لمديرية الاثار القديمة ونقل في عام/ 1967 من مديرية الاثار وامانة العاصمة ليستقر في ساحة المامونية القريبة من سياج وزارة الدفاع مستقراً على منصة كونكريتية وتحيط به الاشجار والنباتات المختلفة واقيمت احتفالية كبيرة لذلك قص فيها شريط الافتتاح رئيس وزراء العراق انذاك المرحوم طاهر يحيى حسبما اتذكر وتوفرت لي الفرصة بالصدفة ان أحضر تلك الاحتفالية.. وعلى اثر نصب طوب ابو خزامة في الساحة البغدادية المذكورة اندفع الشاعر الشعبي الساخر المرحوم عباس ناجي النجفي بنظم قصيدة طويلة بهذه المناسبة منها:
 
هلا بطوب ابو خزامة 
اليطك من وره وجدامه 
هلا ابخلفة مراد الدين 
عدنه وذخر ايتامه 
هلا بالريحته تركي..
مثل ريحة الشمامه..
هلا ابمود الرجع لينه 
جديد وكشف الثامه 
هلا بالعابد الزاهد..
العايز جبه وعمامه 
هلا باللي هداه الله..
وطلع مو طوب علامه
هلا باليشفي مرضانه
طبيب اتكول فهامه..
سمع بخبار نكستنه..
ومصايب جون واثامه 
فزع بعد اهلي ماقصر 
تنخه وكطع احزامه..
تمدد فوك قاعدته..
الرهيب اشحلو هندامه 
حشرهه إدانته راسا 
ويخازر كام جدامه..
حيل اوياهه( اسرائيل )
خلهه اتضوك الامه..
خلهه اتشوف يوم اسود 
اذا فلتت الصمامه 
خل ياكلها( ابن ديان ) 
خاب وضاعت أحلامه
يله اوياي خل ندخل 
على( طوب ابو خزامة )
وعباس ناجي عبر قصيدته هذه يغمز الى الهزيمة التي اصابت الجيوش العربية بعد نكسة حزيران الأليمة..!!
 
 
وبالعودة إلى موضوع طوب ابو خزامة الذي صنعه كما اشرنا كنج عثمان المذكور ليقدمه هدية الى السلطان المتوجه بجيوشه الجرارة من اسطنبول لتحرير بغداد وهكذا كان.. ولعل سائل يسأل عن مصير هذا المدفع الأسطوري الذي اصبح جزءاً اساسياً من الفولكلور والتراث الشعبي البغدادي الطريف نقول ان الطوب وهي تسمية تركية تعني المدفع   استقر به الحال منذ سنوات خلت في حديقة المتحف العراقي الكائن في علاوي الحلة ببغداد لمن يريد ان يشاهده ويطلع  عليه.