نظريات المؤامــرة فــي السياسة الأميركية

بانوراما 2019/12/29
...

بيتر غرير  ترجمة: مي اسماعيل
ارتبطت نظريات المؤامرة بالسياسة الأميركية منذ سنة 1776 (وربما في وقت سابق لذلك)؛ لكنها اليوم قد تكون في مركز حياة الشعب العامة أكثر من أي وقت مضى في العصر الحديث. فلنأخذ مثلا ضغوط الرئيس ترامب على أوكرانيا، التي نبعت جزئيا من رواية غير مثبتة شملت اللجنة الوطنية الديمقراطية، ومؤسسة أمن الكتروني اسمها “CrowdStrike” (= ضرب الجموع)، وخادم حاسوب (server) جرى تهريبه الى اوكرانيا بزعم اخفاء حقيقة عدم قيام روسيا بقرصنة الانتخابات الأميركية سنة 2016. 
سبق هذه النظرية ما قدمه دونالد ترامب عند بدء مهنته السياسية بدفعه نظرية “موقع الولادة” الفاقدة للمصداقية؛ بأن الرئيس اوباما ولد في كينيا وبذا لا يكون مؤهلا لتسلم المنصب. 
قال ترامب (كاذبا) في مقابلة سنة 2011: “لقد ترعرع حيث لا يعرفه احد؛ والأمر كله غاية في الغرابة”. كما يمكن لليسار أن يفكر بنظرية المؤامرة أيضا؛ إذ يربط “خبراء” نشر التغريدات الديمقراطيين بصورة محمومة بين النقاط ليثبتوا أن الرئيس ترامب عميل مدفوع الثمن لصالح فلاديمير بوتين؛ وهي أخبار تستقطب مئات آلاف المتابعين. 
وقبل وقت قصير قالت هيلاري كلنتون (دون تقديم الأدلة) أن روسيا “ترعى” شخصا ديمقراطيا يتماشى مع مصالح الكرملين ليكون مرشحا لحزب ثالث في انتخابات سنة 2020 الأميركية المقبلة.
 
لماذا الآن؟  
لماذا باتت نظريات المؤامرة واسعة الانتشار الآن؟ قد يكون أحد الأسباب سياسة “الولايات المتحدة في مواجهة الآخرين” السائدة اليوم أثناء حقبة الاستقطاب السياسي؛ فحين يجري اعتبار الطرف المقابل شريرا، تكون نظريات المؤامرة أسهل قبولا. ولعلها لن تبدو بالغرابة التي تبدو عليها عادة. 
قد يرى الناس اليوم في نظرية المؤامرة وسيلة لفرض سيناريوهات على الأحداث يجدها الناس مُهدِدة وغير قابلة للتفسير؛ فمن الطبيعي (رغم كل شيء) أن يميل الانسان لوضع تفسير منطقي لما يبدو أمرا عشوائيا. وفي هذا السياق قد تكون نظريات المؤامرة نوعا من المسالك عبر أوقات تبدو خطيرة. 
لايزال ديمقراطيون عديدون يحاولون فهم سبب فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية سنة 2016؛ بينما يدرس جمهوريون عديدون أوجه التنوع السكاني في الولايات المتحدة ويشعرون بالقلق لأنها تهدد منظورهم (ومستقبل حزبهم) لأميركا غالبية سكانها من البيض المسيحيين. 
يعتقد بعض الخبراء أيضا أن الحقبة الحالية تعرض شيئا جديدا: تهما بالمؤامرة ينقصها جانب النظرية. تدعو استاذة السياسة بجامعة هارفارد “نانسي روزينبلم” هذا النمط بــما يطلق عليه مصطلح “المؤامراتية - conspiracism” أو- الايمان بنظرية المؤامرة، قائلة: “يمكن تجميع قوة هذا المصطلح غالبا بكلمة واحدة: “فاسد”، “مزوّر” و”خيانة”. في المؤامرتية يأتي الادعاء الخيالي أولاً؛ ثم يكون البحث عن الأدلة لاحقا.. إذا جرى ذلك 
البحث. هذا النوع من الادعاء اليوم ملك لليمين؛ ولكن اذا كان فعالا فمن المحتمل جدا ان يتبناه  آخرون من أجزاء أخرى من الطيف”. 
 
المؤامرات وصلت
 مع المستعمرين
تجذر التفكير بالمؤامرات في أميركا مع وصول المستعمِرين، وتبنى كل حزب شارك يوما ما في سياسة البلد إدعاءاتٍ أن شبكات من القوى المستترة تعمل لتحقيق أهداف خفية؛ كما ترى “راشيل هوب كليفز” المؤرخة بجامعة فيكتوريا- بريتش كولومبيا، الدارسة لنظريات المؤامرة في الحياة العامة. 
عند بداية تأسيس الجمهورية؛ حذّر فصيل “جيفرسون” من أتباع النظرية الشعبية أن فدراليي المؤسسة (مثل ألكساندر هاملتون) كانوا يخططون لجعل أميركا دولة ملكية. وبالمقابل، وفي انتخابات سنة 1800 اتهم بعض المحافظين “توماس جيفرسون” بأنه قام مع أتباعه بالتحالف مع “المتنورين/ ايلوميناتي -Illuminati”؛ وهؤلاء مجموعة من النخب الأوروبية التي تخطط للاطاحة بالحكومات والاستيلاء على الملكيات الخاصة وتدمير المسيحية. 
خلال الفترة التي سبقت الحرب الأهلية كان العديد من الشماليين يخشون قيام “سلطة الرقيق” الجنوبية الغامضة بالسيطرة على حكومة الأمة عن طريق القتل والابتزاز. 
وعندما حلت سنة 1864 انتشر كتاب “وكر الأفاعي” ليصير بيانا عن مؤامرة أتهمت فيها “سلطة الرقيق” بمحاولة اغتيال الرئيس “جيمس بوشانان”، عن طريق تسميم مكعبات السكر كلها في فندق واشنطن الوطني! كذلك نشطت نظريات المؤامرة التي استهدفت الماسونية خلال أوائل حقبة تشكيل الدولة الأميركية. وفي القرن العشرين ادعى بعض
المحافظين أن عمليــــــة “فـــــلْــــــورة -fluoridation” (= اضافة الفلور الى ماء الشرب لمنع عملية تسوس الاسنان. المترجمة) امدادات مياه الشرب الأميركية كانت مؤامرة لإضعاف الأمة! إدعت مؤامرة “الذعر الأحمر” التي قادها السيناتور “جوزيف مكارثي” ن الاتحاد السوفييتي تغلغل فعليا في جميع دوائر الحكومة، كما انتج اغتيال الرئيس كينيدي عدة نظريات مؤامرة؛ وضعت كوبا والمافيا والمخابرات “C.I.A.” وليندون جونسن موضع الاشتباه. 
 
طريقة تفكير
يقول دارسوها أن نظريات المؤامرة تعكس طريقة تفكير؛ فبعضها صحيح وبعضها يحمل خيطا من الحقيقة؛ والكثير منها زائف. وفقا لراشيل كليفز تجذرت طريقة التفكير تلك في الولايات المتحدة باعتقاد جمهوريي القرن الثامن عشر أن القوة طموحة وشاسعة وأن الحرية دائمًا تتخذ الموقف الدفاعي. وهو ما أطلق عليه المؤرخ “ريتشارد هوفستادتر” تسمية “نمط جنون العظمة في السياسة الأميركية” ضمن اطروحته سنة 1964. 
ويرى الخبراء أن الاشخاص والاحزاب الذين يشعرون بضعف الحيلة ينجذبون الى نظريات المؤامرة؛ إذ يمكنها توفير تفسيرات مُريحة لمأزقهم. لكن تلك النظريات تكون جذابة بالنسبة للأقوياء أيضا؛ إذا ما شعر هؤلاء بعدم الاستقرار في مناصبهم. 
ترى د. كليفز أن الفيدراليين احتووا الرئاسة حينما دفعوا بتهم الالوميناتي الخيالية ضد خصومهم؛ إذ فهموا أن من المرجح أن تحل رؤية جيفرسون الأكثر مساواة محل رؤيتهم الهرمية للجمهورية الأمريكية.. كان التغيير مقبلا فشعروا بالتهديد.. وترى كليفز أن هذا الموقف يمكن مقارنته اليوم بموقف الحزب الجمهوري؛ إذ يتجه جمهور الناخبين سريعا الى أن يصنفوا: أغلبية- أقلية. 
وهنا يشعر البيض الذين يهيمنون على الحزب الجمهوري بالتهديد، قائلة: “قد يكون التفكير بالمؤامرة أمر جذاب للسلطة التنفيذية التي يهيمن عليها الجمهوريون؛ لأنهم يستشعرون ضعف الهيكل السياسي المستقبلي، وهم مهددون بتغير التركيبة السكانية وتحول المثل العليا لمن ينتمي إلى السلطة”. 
 
الحدسيون مقابل العقلانيين
لا تقتصر نظريات المؤامرة في الولايات المتحدة على المثاليين الحالمين؛ إذ يشترك عدد كبير من الناخبين في معتقدات مثيرة للدهشة حول السياسة والأمة. يقول “ايريك أوليفر” استاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو أن هذا شكّل صدمة كبيرة له عندما بدأ يدرس نظريات المؤامرة قبل سنوات؛ فلو أجريت استبيانا عن خمس أو ست نظريات شائعة للمؤامرة (مثل الادعاء الكاذب أن “ناسا” زيفت حدث الهبوط على القمر أو أن الاستخبارات المركزية زرعت “لي هارفي أوزوولد”) فسيؤشر نصف المشاركين واحدة منها  في الأقل على أنها حقيقية! أما النظرية التي تحظى بالدعم الأكثر كما يقول، فهي الادعاء أن “ادارة الغذاء والدواء-F.D.A. “ الاميركية تحجب علاجات طبيعية للسرطان تحت ضغط مؤسسات انتاج الغذاء والدواء الكبيرة. 
يشير أوليفر أيضا (حينما كان اوباما رئيسا للولايات المتحدة) أن نحو 23 الى 25 بالمئة من الأميركان قالوا انهم يصدقون زعم “موقع الولادة”؛ بينما يدعي نحو 19 بالمئة منهم أنهم يصدقون نظرية كون أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 “عمل داخلي”. 
أما الاشخاص الذين يؤمنون بما وراء الطبيعة (مثل الاشباح والادراك الحسي للخوارق) فهم الأكثر ميلا لنسب الحقيقة الى نظريات المؤامرة؛ طبقا لدكتور أوليفر؛ وهو هنا يقسم جمهور الناخبين الى مجموعتين: الحدسيون الذين يستخدمون مشاعرهم وغرائزهم المجردة لفهم العالم، والعقلانيون الذين يعولون كثيرا على الدراسات والحقائق: “الآن نرى الجمهور مستقطبا في هذين المنظورين للعالم”. 
ويمضي قائلا أن الجناح اليميني من الطيف السياسي يميل ليكون أكثر حدسية؛ وما زال هناك بعض اليساريين الذين يعزون الاحداث لنظرية المؤامرة (إذ تركزت الحركة المضادة للتطعيم على سبيل المثال في المناطق التي تميل لليسار). 
 
ادعاءات معقدة
زاد حراك المسيحيين الانجيليين الى الحزب الجمهوري وصعود الرئيس ترامب ونفوذه كثيرا من حساسية الجمهوريين تجاه التفكير بنظريات المؤامرة، وفقا لدكتور أوليفر: “الرئيس ترامب تجسيد للمفكر الحدسي”. لعل تبني ترامب لسيناريو “مكان الولادة” الزائف عن أوباما هو المثال الأشهر لاستخدامه نظرية المؤامرة؛ فهو الشخصية الأشهر الذي أبرز فكرة أن أوباما ولد في كينيا وليس هاواي؛ مما ساعده على تعزيز ملفه السياسي خلال السنوات السابقة لصعوده الى السياسة 
الرئاسية. 
اعترف ترامب سنة 2016 (مع اقتراب موعد الانتخابات) أن..”الرئيس أوباما ولد في الولايات المتحدة. انتهى”. لكنها كانت عبارة مقتضبة جاءت عند نهاية ظهور اعلامي امتدح فيه مزايا فندقه الجديد بواشنطن! أما نظرية المؤامرة التي يبدو أن الرئيس ترامب يتبناها الآن فتدور حول مؤسسة أمن الكتروني (CrowdStrike) 
وأوكرانيا. 
وهذا ما كان يشير اليه في مكالمته الهاتفية الشهيرة مع الرئيس الأوكراني “ فولوديمير زيلينسكي” حينما قال: “الخادم (server)، يقولون أن أوكرانيا تمتلكه”. تكاد تلك النظرية تنتمي الى العصور الوسطى لشدة تعقيدها؛ ولتبسيطها يمكن شرحها بالتالي: أنها تفترض أن اختراق رسائل البريد الألكتروني للجنة الوطنية الديمقراطية “DNC” (التابعة للحزب الديمقرطي الأميركي. المترجمة) قبل انتخابات سنة 2016 لم يتم من قبل روسيا (كما تقول المخابرات الأميركية) وإنما من قبل أوكرانيا، وقد صممت لتخدم هيلاري كلنتون عبر إلقاء الاتهام على الكرملين. 
ويوجد الدليل على تلك النظرية (حسب الادعاء) في خادم حاسوب أميركي جرى اخفاؤه في أوكرانيا ليتم حفظه!
تمضي النظرية قائلة أن مؤسسة (CrowdStrike) الخاصة التي كانت اول من اكتشف التدخل في مراسلات اللجنة متواطئة أيضا؛ وزُعِم أنها مملوكة جزئيا لأحد المتنفذين الأوكرانيين (لكنها واقعا ليست كذلك)؛ مما يفسر، بحسب المزاعم، فقرة إخفاء الخادم في أوكرانيا. 
تطول قائمة الجوانب التي يجب أن تكون صحيحة لتكون تلك النظرية معقولة، ومن بين بعض الفقرات أن مئات الأشخاص (بضمنهم بيروقراطيو الدولة العميقة ورؤساء المخابرات الأميركية ووزارة العدل، والعديد من المسؤولين الأجانب) يجب أن يكونوا متورطين في عملية الاحتيال. حذّر “توماس بوسارت” مستشار الأمن القومي الأول لترامب رئيسه أن تلك النظرية كانت.. “مفضوحة للغاية”؛ لكن ترامب بدا مهتما للفاية في تموز الماضي بتحقيق تجريه اوكرانيا حول القضية. 
وسواء إذا كان قد حجب مساعدات عسكرية عن أوكرانيا لإجبارهم على إجراء التحقيق، اضافة لاستطلاع التعاملات التجارية لهانتر بايدن في أوكرانيا؛ فقد باتت القضية في مركز تحقيق مجلس النواب لعزل 
الرئيس.
 
مؤامرة بلا نظرية 
تعد نظريات المؤامرة توجها سياسيا قديما؛ لكن المؤامرة بلا نظرية شيء جديد بات سائدا كثيرا، بحسبما تراه د. “روزينبلم”: “لم يسبق أن كان لدينا رئيس له ذهنية تتبنى المؤامرة مثل ترامب”. 
تُسمي روزينبلم هذه المقاربة الجديدة بالمؤامراتية “conspiracism”، التي تعمل بدوافع مكشوفة؛ حينما يقال: “الانتخابات “مزورة”؛ الصحافة “فاسدة”؛ الديمقراطيون منهمكون في “الخيانة”.. وهي اتهامات تكون على اتساعها شبه مستحيلة الاثبات أو النفي.. وتقول د. روزينبلم أن نظرية المؤامرة تسبب الحيرة وتشتت المسار لأنها تمثل إعتداء على احساسنا بالواقع، وعلى المؤسسات القائمة على المعرفة التي قد تتحدى التفكير التآمري. ولا يبدو أن لنظريات المؤامرة (بالطريقة التي وظفها بها الرئيس ترامب) أي هدف ايديولوجي أو سياسي أبعد من إبقائه على كرسي السلطة. 
أما مواقع التواصل الاجتماعي فهي أرض خصبة لنشر نظريات المؤامرة، واليوم يستخدمها اليمين؛ لكن اليسار ليس محصنا بوجه التفكير بها عموما؛ لذا ليس من سبب للاعتقاد باستحالة ظهور سياسي ديمقراطي ذي مقاربات “ترامبية”.. وإحدى طرق مواجهة نظريات المؤامرة هي اعادة ترديد الحقائق، لكن المسؤولية الخاصة تقع على المسؤولين المنتخبين والاشخاص ذوي الاتصال القوي مع أحزابهم وناخبيهم للوقوف بوجه تلك النظريات.